النظائر العَلمانية للشعائر الدّينية

BY: Administrator

الآلهة القديمة هَرِمَت وماتت.. ولو استطاعَت العَيش فإنّها لَن تستطيع مُزاحمة الآلهة الجديدة
– إميل دوركهايم  [1]

منذ عصر التنوير وفلاسفةٌ كُثر، ظلّوا يبشّرون بنهاية الأديان وانهيارها للأبد بوصفها سِحرًا وخرافةً بالية، عفى عليها الزمان، وإيذانًا بحِقبة بشرية جديدة يتسيّد فيها العَقل وحده، مُترَبِّعًا على عرشِ أدواته المعرفية: العِلم ولا شيء غير العلم. بدأ هذا عبر صَيحات عديدة أعلنها مُفكّرون وفلاسفة بمَوت الإله، وأفول التدّين، تزامنًا مع الثورة العلمية والصناعية، وتفكّك البُنى الاجتماعية التقليدية لصالح الفردانية، يُعزّزها نشأة المُدُن الحديثة، حيث الغرباء يتجاورون ولكنّهم يملكون حقّ الاختلاء والوَحدة دون أيّ إملاءات تقليدية أو قِيَميَة أخرى.

لكنّ الخبرة والمُمارسة البشرية كان لها رأيٌ آخر، إذ شهدت العصور الّلاحقة للتنوير بصيغته الأوروبية، انتعاشًا جيّدًا وحيويًا لحركات دينية كثيرة، أعادت التموضع في ظلّ الشروط الجديدة للعالَم وتكيّفت بشكلٍ جيّد مع المَناخ الحَدَاثي للمجتمعات والمُدُن الحديثة.  إذ يَبدو أنّ اعتناق النّاس للدّين مسألة أبعد تمامًا من مُجرّد تلبية وظائف تفسيريّة للوجود، بحسب الصيغة التنويرية للتقدّم، التي تربط بين اعتناق النّاس للدّين وجهلهم وعدم تطوّر علومهم أو حاجتهم لإجابات تفسيرية للظواهر الكَونية.

يصف الفيلسوف كِن والبر هذه المُفارقة بين توقّعات الباحثين وما جرى عمليًا على أرض الواقع: “لطالما توقّع عُلماء الاجتماع أنّ الحداثة سوف تجرف جميع الطوائف الدينية، لاعتقادهم أنّها مُؤسّسة على خُرافات بِدائيّة ما قبل حَداثيّة، ولكن ما يزال العالَم طافحًا بحركات دينية تأبّى الزوال“. وتُشير كارين آرمسترونغ لنفس مُلاحظة والبر في سياق مُتّصل بقولها: “بالرغم من أنّ كثيرًا من الناس مُعادون للإيمان، إلّا أنّ العالَم يشهد صحوة دينية. خلافًا للتوقّعات العَلمانية الواثقة في منتصف القرن العشرين“.[2]

وبحسب خوسيه كازانوفا أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة شيكاغو، فإنّ نظرية العَلمَنة انفصلت إلى اتّجاهين رئيسيين اتّجاه كلاسيكي قائم على أيدولوجية النقد التنويري للدّين، وهذا الاتّجاه يرى أنّ الدين يسير في مَسار حَتمي، بحيث ينحسر تدريجيًا حتّى يتآكل تمامًا ويندثر إلى الأبد. أمّا الاتّجاه الآخر والحديث لنظرية العَلمَنة، فهو لا يفترض الأُفول الحتميّ للدّين، لكنّه يرى أنّ الدّين يتخصخص وتتراجع وظيفته في المَجال العام. ووفقًا لتوماس لوكمان في كتابه “الدّين غير المَرئيّ” فإنّ الدّين يظلّ حاضرًا على الدوام لكنّه يُعيد إنتاج نفسه في نطاق خاص بعيدًا عن وظائفه التقليدية في المَجال العام.[3]

وهُنا يُنبّه المُفكِّر الإسلامي سيّد محمَد نقيب العطّاس، أنّ العَلمَنة ليسَت كالعَلمانية، وأنّ العَلمَنة هي رؤية مَعرفية تُهيمن على عقول الأفراد وإدراكهم، بحيث تنزع القَداسة عن الوجود، وتحرم الإنسان القدرة على استحضار الأثر والحاكمية الإلهية في الحياة اليومية. وبالتالي فهي تنزع عن الوجود أي دلالة دّينية بحيث يصير الوجود بداهةً في ذهن الأفراد مُجرّد وجود ميكانيكي جافّ لا يحمل أي دلالة مُقدّسة. وبذلك تصكّ العَلمَنة لهم معرفة ثقافية تحدد رؤيتهم لذواتهم وللوجود بصيغة لادينية. [4]


أزمة المَعنى: الفراغ الذي خلقه أُفول الدّين من المَجال العامّ


إنّنا نَجِد أنفُسَنا في مواجهة قاسية مع مَسألة المَعنى بَعد انسحاب الديانات من المَجال العامّ
وإنّنا إلى هذه الّلحظة لَم نخترع أيّ شَيء يُمكِن أن يَقوم مَقامها بشكلٍ مَقبول
– لوك فيري [5]

يُعبِّر العالَم الحديث عن نَفسه اليوم بوصفه عالَما ديمقراطيّا ومُؤسّساتيا وحاضنًا لمَجال عامّ تعدّدي يتجاوَز الدّين والآيدولوجيا. حيث اعتبر العديد من المُنظّرين أنّ نشأة العالَم الحديث بصيغته الحالية، لَم يَكُن ليحدث لولا قطيعة مَبدئية وحاسمة مع الدّين. في هذا السياق، استخدم الفلاسفة والباحثين في الحقل الاجتماعي تعبيرات عديدة لوصف هذا التحوّل الجديد للمجتمعات البشرية، مثل “نزع السحر عن العالَم” بالنسبة لماكس فيبر ومارسيل غوشيه، أو نهاية “الّلاهوتي-السياسي” بتعبير كارل شميت، أو “عَصر عَلماني” بتعبير تشارلز تايلور أو “تدهير ودَهرنة” بتعبير طه عبدالرحمن.[6]

يتفاعل النّاس مع بعضهم البعض ضمن فضاء مَعرفي وقِيَمي مُتعارَف عليه، وغالبًا ما يُشكِّل هذا الفضاء مجموع المبادئ والقيم التي يفرضها الدّين وثقافة المجتمع وتقاليده، وحين يتمّ إزاحة الدّين أو تحجيم فاعليته في حياة النّاس، فإنّ ما يجري نظريًا هو: وهو أمر غير ممكن عمليًا، وإن حدث هذا على أرض الواقع، فينبغي ألا يدوم طويلًا. إذ يجب أن يتمركز النّاس حول قِيَم مُقدّسة ما، ويجب أن يتحرّك النّاس من خلال فضاء مؤسّساتي وقِيَمي، وفي حال انسحاب المُؤسّسات الدينية بصيغتها التقليدية كمُتدخِّل وفاعل في المَجال العامّ، فلا بُدّ أن تنبثق مؤسّسات جديدة تملأ الفراغ الذي خلقه غياب المؤسّسات القديمة والتقليدية.[7]

من هُنا، فإنّ الإنسان بطبيعة الحال لا يستطيع إلّا أن يتمركز حول مُقدّس ما، كما يذهب إلى ذلك باحثين كُثُر منهم رودولف أوتو في تشريحه لفكرة المُقدّس باعتباره بُنية أساسية كامنة في النفس البشريّة، حتّى وإن لَم يَبدُ للإنسان أنّه يختبر تجربة الانتشاء بالمُقدّس عن طريقة الانخراط بأنشطة حياتية لا تبدو ظاهريًا وكأنّها مُقدّسة، لكنّها تُحقّق الانفعال الوَجدانيّ نفسه، ذلكَ أنّ التجربة الوَجدانية للمُقدّس هي تجربة محفوفة بالخَوف والهَيبة والحُبّ والشغف في الوَقت نفسه.[8]

ونتيجة لتطلّع الإنسان الوجدانيّ نحو المُقدّس وما هو علوي أو مُطلَق، يحدث كثيرًا أن يؤمن الأفراد بقضايا عديدة تمنحهم الشعور الميتافيزيقي ذاته، الذي كانت تمنحه الأديان، لكنّ الشرط الأساسي لهذه القضايا أو المُعتقدات، هي أنّها لا يجب أن تُملِي وصاية أخلاقية، وهو ما يُسمّيه الراحل عبدالوهّاب المَسيري بميتافيزيقيا بلا أخلاق، مثل الإيمان بوجود فضائيين أو إيمانه بتعاليم بوذا التأمّلية أو الوجدانية، لكنّها منزوعة الأخلاق السلوكية، أيّ أنّه لا يجب أن يُملي عليّ كيف أتصرّف بحياتي الخاصّة أو الجنسية أو في أموالي.[9]

في مواجهة هذه الأزمة الاجتماعية بين الدّين والحداثة، قد يتّخذ المُتدّينون أنماطًا جديدة للتدّين، تتسّم عادةً بكونها أنماطًا فردية، متحرّرة من إلزامات الإيمان الجَماعي أو التقليديّ، وبالتالي فهي لا تتبع لأيّ مذهب أو مدرسة دينية خاصّة، بقدر ما تُفضّل أن تنتمي للدّين بوصفه العامّ. وهذا ما تُطلق عليه الباحثة غرايس ديف “إيمان بلا انتماء”[10] أيّ أنّه إيمان ذاتي وخاصّ، لكنّه ليس هُويّة أنتمي إليها وأعرّف نفسي بها بشكل صارم. وهذا بالطبع يمنح الأفراد أريحية سلوكية، وقدرة على التكيّف مع المتغيّرات المُعاصرة، بدل الإقصاء أو الانعزال على أساس انتمائه لجَماعة مُختلفة عن باقي الجَمَاعات البشرية.

وفي مواجهة أزمة المَعنى والشعور باللاجدوى الذي يجتاح أفراد هذا العالَم، تتنامى تجارب الانسحاب من الواقع بما تشمله من تعاطي المخدرات أو أقراص DMT أو الفطر السحري، كتجارب مُهلوسة وحالمة ومنفصلة عن الواقع، لتخفيف وَطأة إدراكنا بضآلتنا أو هشاشتنا أو هامشيتنا أمام كلّ هذا الوجود الصاخب والكبير والمليء بالشر والمشكلات التي لا تَعبأ لذواتنا البسيطة.

كما أنّه وفي مواجهة أزمة المَعنى وغياب الأفق الوجودي الذي يمنحه الدّين وممارساته للحياة، ينهج النّاس في سلوكهم اليوم إحدى ثلاث مَسَارات: إمّا الانهماك الكثيف بأنشطة جسدية وإرباك مُكثّف للحواس لتخفيف إدراكهم بأزمة المَعنى، أو محاولات للانخراط بممارسات بديلة عن الممارسات الدينية تمنحهم الشعور نفسه بالمقدّس والجَمَاعة. وإمّا الغرق في فخّ العَدَمية والتدهور السلوكيّ وعدم المبادرة إلى أيّ شيء، وهو شكل من أشكال الاحتجاج على الواقع المَأزوم كما أشار لذلك علي عزّت بيجوفيتش من قبل.


مأسسة الإلحاد: الوَعي بضرورة خلق بديل عن الدّين


غيرَ أنّنا نحن الإنسانويين اليوم خائبي الظنّ، كعَلمانيين بالذات، إذ لا يُمكننا أن نُجييب عن أسئلة وجودية كثيرة: عندما يضرب الشرّ ويباغتنا المَوت في عبيثته، فإنّنا لا نستطيع صدّ سؤال “لماذا؟”
ذات الأسئلة التي تضع لها الأديان والذات المُطلقة الإلهية، حدًّا نهائيًا وتقدّم لها إجابات أكثر بديهية.

– لوك فيري[11]

 

لَم يكن تشخيص أزمة المَعنى الذي خلقه التحوّل نحو العَلمانية والعَلمَنة، وليدَ تيّار دّيني أو أكاديمي فحسب، بل جاء ذلك من خلال وَعي داخلي لأعلام الإلحاد والإنسانوية الحديثة، بأنّهم يواجهون مأزق إنسانيّ جادّ أمام أديان مُزاحة، وغير قابلة للتعويض من حيث قدرتها على توفير المَعنى للأفراد. وفي أنّ غياب المَعنى ليسَت أزمة هامشية أو عَرَضية ولكنّها أزمة بُنيوية مرتبطة بطبيعة العالَم العَلماني والديمقراطي الذي نتواجد به.[12]

انبثقت على إثر ذلك عدد من الكتابات كمحاولات تنظيرية لشغل الفراغ النظري والقِيَمي الجديد، ويُمكِن لنا انتقاء ثلاث نصوص كُبرى، تُمثّل اقتراحات سلوكية ونظرية لممارسات طقوسية وروحانية للمُلحدين:

 

 

• كتاب الفيلسوف الأمريكي سام هاريس: الصحوة، دَليلَك نحو روحانية بلا دين
Waking Up: A Guide to Spirituality Without Religion

• كتاب الفيلسوف الفرنسيّ أندريه كوميت سبونفيل: الكتاب الصغير لروحانية المُلحِد
The Little Book of Atheist Spirituality

• كتاب الفيسلوف البريطاني آلان دو بوتون: الدّين للمُلحدين، دليل غير المؤمن لاستخدامات الدّين
Religion for Atheists: A non-believer’s guide to the uses of religion

وتُقدِّم الكُتب الثلاث دليل إجرائي وعَمَلي للملحدين بمجموعة من التمارين والإرشادات لممارسة أنماط شعائرية منزوعة المحتوى الّلاهوتي. ومن الملاحظ أنّ الارتكاز الأهمّ عندهم هو الديانة البوذية والممارسات التأمّلية بعيدًا عن الديانات الإبراهيمية، وحساسية ذلك واضحة، خاصّةً لدى سام هاريس الذي يُبدي كراهية وحَنَق شديدَين تجاه المسيحية والإسلام.


النظائر العَلمانية للشعائر والمُعتقدات الدّينية: أمثلة وتطبيقات


مَهما كان المُجتَمَع الحَداثي عَلمانيًا، فإنّه يحوم حول طقوس مُماثلة للطقوس الدينية في الغايات والنتائج
– إميل دوركهايم [13]

أشار عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم إلى أنّ جُزء كبير من الممارسات البشرية في المجتمعات الحديثة، ما هي إلّا امتداد أو تطوير شكلي للممارسات الدّينية القديمة، بحيث تحقّق الغايات والنتائج التي كانت تحقّقها الممارسات الدّينية والشعائرية. وهذا يُعيدنا للفكرة الأساسية التي تقول إنّ الدّين وحاجة الإنسان للمُقدّس لا تنسحق أو تتلاشى، ولكنّها تُعيد استمداد نفسها من بدائل حديثة تحقّق للبشر نفس الإشباع الوَجداني.

يُعرّف إميل دوركهايم الدّين بوصفه: نظام مُوحّد من المُعتقدات والمُمارسات التي تدور حول قِيَم المُقدّس والمُدنّس، بطريقة تُوحّد النّاس الذين ينتمون إليه. وبالتلي هناك ما يجب تقديسه وهناك ما يجب احتقاره (الحلال والحرام) وهناك ممارسات ومُعتقدات تدور حول هذه القِيَم.

ووفق المُقدّمات النظرية السابقة وفهم الدّين وما يمنحه، وفهم المظاهر السلوكية الحديثة التي تحاول أن تخلق بدائل مُعاصرة عن الشعائر الدّينية، نستعرض أهمّ خَمس تحوّلات من الدّيني إلى العَلماني، على مُستوى المُعتقدات والممارسات، تُمثّل النظائر العَلمانية للشعائر الدينية:

 

1. الصوابية السياسية: الحلال والحرام الجديد

 

يبدو أنّ الجِدال الكَلاميّ في التحسين والتقبيح لا يفقد فاعليته أبدًا، إلّا أنّ التحوّل يبدو هذه المرّة باتّجاه التداول الشعبيّ للخلافات الأخلاقية وفق معايير “ما يَليق قوله” و”ما لا يليق قوله”، وبذلك تأتي فِكرة الصوابية كمُحدّد خِطابي وضابط أخلاقيّ لما يجب قوله ولِما لا يجب قوله وِفقًا لمعايير الهُويّات الثقافية والجِنسية الحديثة.

ويكمن الجوهر الأساسي للصوابية السياسية، هو أنّه يتعامل مع الخِطاب بوصفه عُنف وأذىً لا يجب تمريره، وبالتالي فحرّية التعبير أو حرّية الأفراد بتبنّي قناعاتهم هي مسألة مكانها القُمامة، إذ يجب أن تتبّع قواعد الّلعبة الجديدة بصرف النظر عمّا تُؤمن به، لا يجب أن تقول ما تؤمن به، ولكن يجب أن تقول ما تحدّده أجندة الصوابية السياسية.

من هنا تبدو الصوابية السياسية كتحسين وتقبيح أخلاقي قادما من الغَرب، فما يراه الغرب قبيحًا فهو قبيح، وما يراه حَسَنًا فهو حَسَن، وهذه مساحة جيّدة لفهم الاستلاب الثقافي من جهة. ويُمكِن سحب هذه لفكرة لأقصاها، بالحديث عن حركة النباتيين، حيث التحريم يتّخذ صيغة عَلمانية بديلًا عن التحريم الدّيني.

2. الإرشاد المَعيشي والمُحلِّل النفسيّ: رجل الدّين الجديد

 

كما سبق بالتمهيد، كان الوضع الابتدائي للُمجتمعات البشرية مُحاطًا بفهم دينيّ للوجود، من هنا كان النّاس لا يفهمون أنفسهم ومجتمعاتهم إلّا من خلال رؤية دينية ناظمة أو كُلّية، لذلك كانت المَساحة بين (الدّيني) و(الدُنيوي) شبه معدومة تقريبًا، وكان رَجُل الدّين يُملي على النّاس أدقّ تفاصيل حياتهم، إذ كان مَلاذًا ومُستشارًا للفرد حتّى في أكثر شؤون حياته دُنيوية.

أمّا في المجتمعات الحديثة اليوم، ومَع انفصال الشأن الدّيني عن الحياة العامّة للأفراد، فَقَد رجل الدّين -بشكلٍ نسبيّ- قدرته على التوجيه الأخلاقي أو الإرشاد المَعيشيّ للأفراد. وصارَ الأفراد إذا ما واجهتهم مشكلة حياتية ما، يلجؤون إلى الطبيب أو المعالج النفسيّ بحثًا عن الطَمأنينة والإرشاد والتوجيهات الحياتية. وبدل كرسي الاعتراف الدّيني، في التقليد المسيحي، صارَ النّاس لا يرتاحون إلّا إذا اعترفوا لكاهن، لكنّه هذه المرّة غير دّيني، يأتي على صيغة طبيب أو معالج، يسمع مشكلاتهم ويُفصحون له عن نزواتهم دون خوف من أن يتمّ تصنيفهم أو محاكمتهم.

ذات السبب الذي يُفسِّر الانتشار الواسع لرُوّاد الارشاد المَعيشي Life Coaching  ومُدرّبي التنمية البشرية، وكذلك التنامي المُطرِد للطبّ النفسيّ وعلم النفس، والفرق بينهم هو فقط مقدار عِلمية كلّ طرف أو استناده للحقائق والبحوث العِلمية في مُقابل بيع الوَهم والعِلم الزائف، ولكنّها جميعها في نهاية المَطاف تؤدّي البديل نفسه، مع فرق الفاعلية بالطبع.

3. الاحتفالات السنوية الكُبرى

 

يُعقَد سنويًا عدد واسع من الاحتفالات والمَهرجانات الغنائية بشكل سنوي في نفس الفترة الزمانية والمَكانية تقريبًا، هذا يشمل التجمّعات الاحتفالية التي تحدث في رأس السنة حول العالَم، ومثلها احتفالات عيد الحبّ ونحوه. وهُنا نحنُ نتحدّث عن تقويم زمانيّ خاصّ يرتبط بمكان خاص بفعالية جماعية خاصّة يجتمع بها الأفراد من مختلف أطراف العالَم وهي الشروط التي تتلاءَم مع توصيف الحَجّ الديني لدى فئة عريضة من الأديان.

على سبيل المثال، يُعدّ مَهرجان Donauinselfest الغنائي الذي يُعقَد سنويًا في النمسا واحدًا من أكبر الاحتفالات الموسيقية، إذ يبلغ عدد الزُوّار والتذاكر المُباعة خلال ثلاث أيام ما مقداره ثلاث ملايين زائر من حول العالَم. وهو رقم يفوق حتّى أعداد الحجّاج المُسلمين سنويًا المتوجّهين نحو الكعبة. ومثل ذلك مهرجان Tomorrowland المُقام في بلجيكا والذي يستقبل سنويًا ما مقداره 400 ألف زائر من 83 مطار حول العالم.

 

4. التأمّل والامتنان: البدائل العَلمانية للصلوات الدّينية

 

وجد الباحثون وِفقًا لدراسات علاقات واضحة تربّط الصحّة النفسية بوجود ممارسات تديّنية لدى أصحابها، ومن خلال البحث عن العوامل الكامنة وراء تعزيز الصحّة النفسية للمُتديّنين، وُجدت عوامل عديدة، منها الدعم النفسي الاجتماعي الذي يتلقّاه الفرد من تواجده ضمن جماعة دينية، ومنها الأمل الدّيني والصبر والعزاء الذي يمنحه لأتباعه. [15]

أمّا على مُستوى الممارسات الشعائرية، فقد لاحظت اثنتين من أهمّ الممارسات الموجودة لدى الأديان، والتي تؤثّر إيجابًا على الصحّة النفسية لأتباعها، وهي الصلاة وممارسات الحمد والشُكر. ومن ثمّ استخلصت آليات تأثيرها، لتخلص إلى ممارستين علاجيتين شهيرتَين اليوم في وسط الطب النفسيّ والعلاج النفسي للاكتئاب والقلق، وهي التأمّل الذهنيّ Mindfulness والامتنان Gratitude.[17]

تكمن الفكرة الأساسية بالعلاج النفسيّ عن طريق التأمّل الذهني، من خلال التفرّغ لدقائق وبشكل مُنتظم يوميًا (قبل النوم مثلًا) لتصفية الذهن والتأمّل والهدوء بطريقة مماثلة للخشوع وإقصاء التدخّلات أو الأنشطة الحياتية خلال هذه الفترة. أمّا الامتنان فهي نظير الحَمد والشكر، وهي توقّف الفرد بين الحين والآخر ليتأمّل ما لديه من نِعَم وفضائل ومكاسب وامتيازات مَمنوحة إليه من الحياة وما يجعله أفضل من غيره من باقي البشر. وقد وجدت الدراسات أثر هاتين الممارستين على تعزيز الصحّة النفسية للأفراد.

 

5. مدرسة الحياة: المَعابد العَلمانية والخطابات الوَعظية

 

استحدث الفيلسوف آلان دو بوتون “مَدرسة الحياة” The School of Life بوصفها مُؤسّسة تعليمية منذ 2008، إذ يعمل على عقد محاضرات دَورية في قاعات جَمَاعية ضخمة، مُقدِّمًا خُطَب تتّصل بالحياة والفلسفة والأديان، وتتّخذ محاضراتها أحيانًا صِيغة وَعظية مليئة بالتوصيات، إذ قَد تُقدّم مُرافعة عن اليأس وأحيانًا عن التخفّف وأحيانًا عن السعادة أو عن الحبّ ونحو ذلك.

تتوزّع لمدرسة الحياة فروع عديدة في مُدُن كثبرى حول العالَم، وتفتح للنّاس بابَ الانتساب والتقدّم بطلب التحاق وعضوية، وتُقدِّم لأتباعها خَدَمات عديدة أخرى مثل العلاج والإرشاد النفسي، والعلاج عن طريق القراءة أو الكُتُب.

يقترح آلان دو بوتون للإلحاد الجديد، بأنّ ينتقل خطوة إلى الأمام، عن طريق استخلاص المُفيد وظيفيًا من الأديان، ويدعو بأنّ الخطوة القادمة يجب أن تكون بتحويل الإلحاد إلى مؤسّسة اجتماعية لها خطابها ولقاءاتها الدورية، بطريقة تُضاهي الخطاب الدّيني ومُؤسساته، ونستعرض هُنا ستّ خلاصات من الدّين كما يقترحها بوتون:[18]

أوّلًا: اقتباس الجانب الشعائريّ من الأديان ومحاكاة الممارسات الطقوسية من الدين، إذ يبدو أنّها حاجة بشرية مُلحّة وضرورية. وبالتالي يقترح بوتون للإلحاد الجديد أن يُنظِّم التجمّعات البشرية وبشكل دوري للملحدين لتبادل المواعظ اللادينية والإلحادية والفلسفية.

ثانيًا: التعليم بالموعظة والتكرار، فالعصر العَلمانيّ يثق تمام الثقة بالتعليم لجعل العالَم مكانًا أفضل، ولهذا يتمّ الإنفاق بشكل كبير على التعليم. ولكن يُوجّه بوتون إلى أنّ التعليم يجب أن يقوم بمهمّة إرشادية، وأن يُجيب الأفراد عن أسئلة من نوع: كيف أعيش؟ وكيف أُمارس الحياة بشكل صحيح؟ وبالتالي أن يحتوي التعليم على موعظة (مماثلة لتلكَ الدينية) فبحسب بوتون، لا بُدّ من العودة للمواعظ، لأنّنا جميعنا بحاجة لتوجيه، ونصيحة ومواساة، وهذا ما تعرفه الأديان جيدًا وتستخدمه. لكن ينبغي أن يُكرِّر المُلحدون مواعظهم الفلسفية كما تفعل الأديان بأتباعها كلّ يوم، إنّ عامل “التكرار” هو العامِل الأهم في خلق الفاعلية والتأثير. فالأديان مبنية على ثقافة التكرار. وتدوير الحقائق العظيمة مرارًا وتكرارًا.

ثالثًا: الارتباط الزمانيّ والمَكانيّ، أو صناعة التقويم الزمنيّ المُقدّس، فهناك تقويم كاثوليكي، وتقويم هجريّ ففي نهاية الشهر الفلاني ستتذكر هذا الحدث المُقدّس، وفي بداية الشهر الفلاني ستتذكّر ميلاد هذا النبيّ، وفي هذا الأسبوع من السنة ستحتفل بالعيد، أو ستصوم. وكذلك على مُستوى المَكان انظر الحَج على سبيل المثال، وانظر كيف تجعل الأديان من السفر فعلًا مُقدّسًا بتحديدها لأماكن مُقدّسة ضمن إطار زماني ومكاني دوري، من هنا يقترح بوتون مُتسائلًا: لماذا لا نُسافر في موعد سنوي نحو قبر تشارلز داروين على سبيل المثال في مجموعات من كلّ أنحاء العالَم؟

رابعًا: احتراف فن الخطابة، تقوم الأديان في جوهرها على أداء خطابي عاطفي مُؤثّر، بطريقة وثوقية مُقنعة. ومن هُنا يقترح بوتون أنّ أعلام الإلحاد يجب أن يحترفوا فَنّ الخطاب وأن يستخدموا خطابات شاعرية وعاطفية ومُؤثّرة بأتباعهم أيضًا.

خامسًا: التعامل مع الأجساد، نحنُ لسنا عقول فقط وهذا ما تعيه الأديان جيّدًا، فالأديان لا تُعطي أتباعها مواعظ مَعنوية فقط. لاحظ مثلًا مسألة التوبة أو التطهّر من الذنوب، والتي تأمر أتباعها بالاستغفار لكنّها تأمرهم أيضًا بسلوك فعلي ومادي على مستوى الجسد، مثل الاغتسال أو الوضوء. ولذلك يقترح بوتون أن يستثمر الإلحاد الجديد هذا الفهم لإلزام أتباع الإلحاد بشيء من الممارسات الجسدية.

سادسًا: تجاوز النظرة الحيادية للفَنّ، إذ يصف بوتون المتاحف الفنّية بأنّها معابد بَشَريّة في العصر العَلمانيّ، لكن الكارثة في الفَن المُعاصِر أنّنا أوّلًا نُريد من الفَن أن يكون من أجل الفن فقط، أي من أجل نفسه، وبالتالي ليس بالضرورة أن يعني شيئًا أو أن يشرح نفسه أو أن يكون مفهومًا، ولنعترف بهذا ولنواجه أنفسنا، كثيرًا ما ندخل المتاحف وننظر فتقول في قرارة نفسك: لا أعرف ما الذي يعنيه هذا؟ هل هذا شي مقصود فعلًا من قِبَل الفنان فأسعى لتأويله؟ أو هو مُجرّد تشكيل اعتباطي؟

أمّا التعبير الدينيّ في الفَن، أو الفَن المُؤسّس دينيًا، فهو غالبًا يقوم على التذكير: أوّلًا التذكير بما تُحبّ وثانيًا التذكير بما تخشى وتكره. إنّ الفَن لدى الأديان أشبه بدعاية تُداعب حواسك المادية لتذكيرك بالحقائق الدينية، بالعقاب والثواب أو اليوم الآخر أو قصّة الخَلق. يقترح بوتون تقسيم المتحف، لقسم للفَن الذي يتحدّث عن الحُب، وآخر يتحدّث عن الكَرَم وهكذا يُعاد تعزيز وتغذية البشرية بالقِيَم اللادينية.

سابعًا: التجمّع، إنّ الأفراد في العالَم العَلمانيّ، ينزحون نحو العُزلة والتفرّد، وينتهي بهم المطاف معزولين ووحيدين، فلاسفة وكُتّاب ومُخرجين.. لكن ما تفعله الأديان، التجمّع سويًا، وإنشاء المُؤسّسات الجماعية، وللتجمّع تأثيراته الإيجابية على مُستوى القُوّة والطاقة والشعور بالمعنى. وهُنا يُوصي بوتون المُلحدين بقوله: الانعزال لن يصنع شيئًا، إذا أردنا تغيير العالَم فعلينا كلادينيين أن نتجمّع سويًا.


 

تبدو المقولات الكلاسيكية للتنوير عن إزاحة الدّين نهائيًا، ضرب من التزييف لحقيقة الواقع، ففكرة القطيعة التامّة مع الدّيني، لا يصدقها الواقع. بل على العكس، يبدو أنّ ما نشهده كصِيَغ تنويرية حداثية هو امتداد لما هو دّيني بالأساس وإعادة تشكيل له، أكثر من كونها إحداث قطيعة تامّة. لكنّ التيار التنويريّ المعاصر يبدو مُجيدا لفهم هذه المعادلة للاحتياج البشريّ الأصيل للمعاني المُقدّسة والمتسامية. لكنّ، يظلّ السؤال قائمًا على الجهة المُقابلة للنهر حول قدرة الأديان الكبرى وعلى المجددين فيها تجاه تشخيص واقعهم واستثمار أصالة وجودهم، وبالتالي حجز مساحة فاعلة في حياة الأفراد وفق صيغة العالم المعاصر كما هو اليوم.


المراجع والمصادر

[1]  خوسيه كازانوفا، الأديان العامّة في العالَم الحديث. المنظّمة العربية للترجمة. 2005

[2]  عبدالله بن سعيد الشهري، ثلاث رسائل في الإلحاد والعِلم والإيمان. مركز نماء للبحوث والدراسات. 2014

[3]  خوسيه كازانوفا، الأديان العامّة في العالَم الحديث. المُنظّمة العربية للترجمة. 2005

[4]  سيّد محمّد نقيب العطّاس. مُداخلات فلسفية في الإسلام والعَلمانية. المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية. 2000

[5]  لوك فيري، الإنسان المُؤلّه أو مَعنى الحياة. دار أفريقيا الشَرق. 2002

[6]  طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدّين. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. 2014

[7]  آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم. المنظّمة العربية للترجمة. 2011

[8]  رودولف أوتو، فكرة القُدسي. دار المعارف الحكمية. 2010

[9]  عبدالوهّاب المَسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر. دار الشروق. 2008

[10]  Davie, G. 1994. Believing without belonging. Oxford: Blackewell.

[11]  لوك فيري، الإنسان المُؤلّه أو مَعنى الحياة. دار أفريقيا الشَرق. 2002

[12]  لوك فيري، الإنسان المُؤلّه أو مَعنى الحياة. دار أفريقيا الشَرق. 2002

[13]  إميل دوركهايم، الأشكال الأوّلية للحياة الدّينية. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 2019

[14]   Religious and Spiritual Factors in Depression: Review and Integration of the Research Link

[15]   Does Spirituality or Religion Positively Affect Mental Health? Meta-analysis of Longitudinal Studies Link

[16]   The effects of mindfulness‐based interventions on cognition and mental health in children and adolescents – a meta‐analysis of randomized controlled trials Link

[17]   Thankful for the little things: A meta-analysis of gratitude interventions. Link

[18]  Religion for Atheists: A Non-Believer’s Guide to the Uses of Religion. Alain De Botton, 2011


نُشر هذا المقال لأوّل مرّة، لنفس المُؤلّف على منصّة ميدان الجزيرة على الرابط هُنا