الحكمة الإلهية: لماذا لدى الرِجال أثداء؟ ولماذا يحدث هذا كلّه؟

BY: Administrator

“ولعلّك تقول: ما حِكمة هذا النبات المبثوث في الصحارى والقفار والجبال التي لا أنيس بها ولا ساكن، وتظنّ أنّه فضلَة لا حاجةَ إليه ولا فائدةَ في خَلقه، وهذا ومقدارُ عقلِك ونهايةُ عِلمك. فكم لباريه فيه من حكمة وآية!”.

(مفتاح دار السعادة، ابن القيّم)

أذكر أنّ أخي الأصغر سنًّا، وبينما كُنّا في أحد المسابح، بادرني بسؤال بسيط ونوعي، حين قال: لماذا لدى الرِجال أثداء؟ وأذكر يومها أنّني أجبته إجابة عِلمية بديهية بالنسبة لي، قُلتُ له: ببساطة، لأنّ أعضاء الجنين تتشكّل في البداية ويتشكّل جسده الأساسيّ قبل أن يبدأ التمايز الجنسيّ للجسم، وأنّ التمايز الجنسي للذكورة هو مرحلة لاحقة على التكوين الجسمي الأوّلي، وأنّ الأصل أنّنا نشترك مع الإناث بكروموسوم (إكس) ثُمّ يتدخّل كروموسوم (واي) ليحدّد التمايز الجنسيّ باتّجاه الذكورة، وأنّ غياب أو وجود كروموسوم (واي) هو أمر يحدث لاحقًا وهو ما يحدّد جنس المولود.

اعتقدت أنّ هذه الإجابة كافية لحظتها، لكنّها إجابة تُفسِّر الكيفية وتُجيب على سؤال “كيف؟” أكثر ممّا تُجيب على سؤال الغائية (سؤال “لماذا؟”) لأنّ المسألة تظلّ قائمة فعليًا حتّى بعد الإجابة عنها بالطريقة السابقة، إذ لماذا يخلق الله أثداءً لرجل لا يحتاجها بالأساس. بالطبع قد يُجاب هنا بإجابات عدّة، سيناريوهات مُحتملة، قد يكون شخص ما، بدون أثداء سيبدو الرجال بمظهر مُستهجَن وأقلّ جاذبية (بإمكانك أن تُشاهد مسلسل “ستار تريك” على سبيل المثال لتلحظ أنّ إزاحة بسيطة في شكل الأذن، أو الحاجبين، يجعل المخلوق يبدو بشكل مُريب ومُستهجن وغير جذّاب) عمومًا هذا الاعتراض لا يمكنه اعتباره بمثابة إجابة مُعتبرة، ببساطة تلعب الأُلفة والاعتياد دورًا مُهمًا في طبيعة إدراكنا للوجود.

من هنا قد تجد أنّ الأشخاص الذين يُحيلون للعلم باعتباره الإجابة النهائية والأخيرة لتفسير الظواهر، مجرّد تعسّف معرفي آخر، لأنّها لا تشفي غليل أسئلة الغاية والغائية (لماذا؟) سؤال لماذا، هو ذات السؤال الذي تجد أولئك الذين لا يؤمنون بشيء يصيحون سخطًا في لحظات ومحكّات عديدة، عند خسارة ما (مفهومة علميًا) أو عند موت  فيزيائي لأحدهم (مفهوم علميًا توقّف وظائف الجسد) لكنّه يبقى سؤال عالقًا أمام وجود إنساني وذات بشرية لا تستطيع إلّا أن تبحث عن معنىً كامن وراء الأمور والأحداث، استذكر هُنا مقطع من أغنية باسنجر حيث يعرف تمامًا ماذا يحدث معه من أنّه كلّما اقترب من شيءٍ ما، أفسده، وكلّما لمس شئيًا.. حطّمه، لكنّه يظلّ يتساءل: (لماذا يحدث هذا؟)، حين يقول:

Maybe one day you’ll understand (why?)

نحنُ كائنات مُتعطّشة بطبعنا، وعند  بحثنا عن تفسير حدث أو ظاهرة أو موجود ما، فنحنُ نتعطّش لأن نفهم أكثر من مُجرّد كيف حدثت الأمور وأكثر من مُجرّد فهم حيثيات حدودها، نحن كائنات نبحث عن فاعل (لـ لومه أو شكره) وعن غاية (عن قصّة وعن معنى يجعل الحدث مستساغًا وجوديًا)، هُنا أستذكر أنّ المفكّر الإيراني هادي المدرسيّ، ذكر في كتابه “هذا الدّين للقرن الواحد والعشرين”حين قال: هؤلاء الذين يقولون بأنّ الإنساان كان يتّخذ الدّين مُعتَقدًا، لأنّه لَم يكُن يعرف كيف يُفسِّر ظواهر الكَون.. وعندما استطاع تفسيرها عن طريق العِلم، لَم يَعد بحاجة إلى دين وتوجّب عليه أن يكفر بوجود الإله، تمامًا كمثل مَن يقول:

“إنّ البدويّ، عندما لَم يكن يعرف كيف تعمل المُحرِّكات Motors، كان يؤمن بوجود مَصنعٍ لها، والآن وحين صار يعرف كيف تعمل المُحرِّكات وكيف تُحرِّكها الطاقة وكيف تتفاعل أجزء المُحرِّك، فإنّه قد صار عليه لِزامًا أن يكفر بوجودِ مَصنَعٍ لها !!”


“ولقد تأمّلت حالا عجيبة… مثل اخترام شاب ما بلغ بعض المقصود بُنيانُه، وأعجبُ من ذلك أخذُ طفل من أكفِّ أبوَيه، ولا يظهر سرّ سلبه، والله غني عن أخذه، وأبوَيه أشدّ الخلقِ فقرا إلى بقائه، وأظرفَ منه إبقاء هَرِم (كبير في السنّ)، وهو لا يدري معنى البقاء، وليس له في بقائه إلّا مُجرّدُ الأذى، ومن هذا الجنس: تقتير الرزقِ على المؤمنِ الحكيم، وتوسعته على الكافر الأحمق. وفي نظائرَ لهذه المذكورات يتحيّر العقلُ في تعليلها فيبقى مَبهوتًا”.

(صيد الخاطر، ابن الجوزي)

 

تخيّل أنّك تعيش الآن في سنة 1000 قبل الميلاد، تقطع مساركَ سيرًا في إحدى الصحاري، كانت ليلة باردة، وأردتَ أن تجدَ مأوىً دافئًا أو نارًا تنام بقربها، لكنّك لَم تجد، وأثناء بحثك سمعتَ صوت اضطراب في باطنِ بُقعةٍ من الأرض، فأخذت تحفر وتحفر، لكنّك للأسف.. تجدُ سائلا أسودَ كريها لا ينفع لشيء، فتلعن نفسكَ، لقد أضعتَ من!وقتك وجهدك في إيجاد ما لا قيمةَ له، ثُمّ تلعن الوجود، ما قيمة هذا السائل ولماذا هو موجود بالأساس، يا للعبث.

لكنّ البشرية سيكونُ لها رأي آخر بعد 3000 آلاف سنة، فقد صار ما كان عبثًا.. ذهبًا أسودًا، له قيمة رمزية ومادية قادرة على تدفئة صحارٍ وإضاءةِ مُدُنٍ بأكملِها في الّليل. لكنّك في تلك اللحظة، وفي وجودِك المحدودِ بالزمان، تفهم على مقدار مُعطياتِك، لا ترى أبعدَ من أنفِك، ولا يمكنك أن تفهم أنّ للأمور أبعادًا لا تظهر في اللحظة ذاتها، وأنّ ما يبدو عبثًا اليوم.. يؤول ذهبًا غدًا.

من الّلافت أنّ الإنسان يملكُ من الجرأة ما يمكّنه من إطلاق الأحكام على كثيرٍ من الأمور، رغم إدراكه المحدود، وقد لا يقتصر هذا على السلوك الشعبيّ واليوميّ، إذ يحدث هذا كثيرا في الاكتشافات العلمية، ففي عام 1972 اكتشف العلماء أنّ جزءا غير قليل من الحمض النوويّ يتشكّل من أجزاءٍ لا قيمة عملية لها، ولا وظيفة لها، مُجرّد خردة أو قمامة وزائدة تطوريّة، أطلقوا عليها اسم “Junk DNA” أيّ الخُردة.*

لكنّ سلسلة الدراسات اللاحقة، والتي تأخّرت نسبيا حتّى عام 2012، بيّنت أنّ هذا الجزء (الخُردَة) يلعب دورًا مُهمًّا جدًّا في آليات النسخ والتشفير وتنظيمه ليعود بعدها ما كان يُسمّى خُردة.. ذا قيمة وأهمّية ووظيفة حسّاسة. وحسبك من هذا، أنّك لو كُنتَ العالِم الذي يُجري هذه الأبحاث وتبنّيتَ موقفا عَقَديا بناءً على أبحاثك، بأنّ أجسامنا والكون مليئة بالخردة والموجودات العبثية والأشياء الزائدة عن الحاجة، فآمنتَ أنّ الوجودَ عبثيّ وأخذت تُدلِّل لأصدقائك في نقاشاتك عن بحثك العلميّ الهامّ الذي تستنتجُ من خلاله أنّما هي موجودات عبثية لا معنى لها ولا غاية. ثُمّ تُوفّيتَ في عام 2000 مثلا، أيّ قبل اكتشاف أهمية وغاية هذا الموجود، لمُتّ ساخطًا ومُؤمنًا بعبثية الوجود. فالحياة قصّة لا يشهد الإنسان منها إلّا حلقة صغيرة للغاية (تمثّل عمره) من حيث المنظور الزمانيّ.

إحدى الرسومات الكاريكاتوريّة الطريفة قامت بتعرية هذا القصور الإدراكي البشريّ في مقابل جرأته على إطلاق العبثية على الاكتشافات، وفي هذا الكاريكاتير رُسم الحمض النوويّ الخردة (Junk DNA) وهو مُلقى في القمامة، ويصيح في وجه الإنسان:

مُجرّد كونِك لا تستطيع أن تفهم وظيفتنا (أهمّيتنا)، لا يجعلكَ مُخوّلا بأن تُسمّينا “خُردة”.

نظرية التطور و حقيقة الخلق: اسطورة الجانك دنا ( Junk DNA )...

والغاية من سرد هذه الأمثلة هو التأكيد على نقطة واحدة؛ أنّنا في كثير من الأحيان لا نستطيع أن نفهم لأنّنا محدودون بمُعطياتنا الأوّلية، ومحصورون بما تراكم لدينا من معرفة علمية بزماننا هذا، وسيكون من الغرور والتكبّر أن ندّعي أنّنا فهمنا، لأنّ خبرتنا البشرية لطالما كشفت لنا جهلنا، فكلّ ثورة عِلمية بوصف توماس كون، إنّما هي تعبير عن انزياح مفاهيميّ لدينا، لطريقة فهمنا للكَون كما كُنّا نعرفه، باتّجاه الكَون كما سنعرفه في حلّته الجديدة.

وقد لا يعتقد القارئ أنّ هذه أحداث عارضة، إذ تتكرّر هذه القضية كثيرًا من العلماء الذين يُؤلّفون في المجال العلميّ. فقد قام عالم الحفريات جاي جولد (Jay Gould) سنة 1980 بتأليف كتابه “The Panda’s Thumb” مُشيرا فيه إلى أنّ الباندا يملكُ إصبعا زائدًا لا قيمةَ له. لكنّ هذه الرؤية انقلبت تمامًا سنة 1999 عندما نُشر بحث مُحكَم في مجلة “الطبيعة” (Nature) قام به فريق بحثيّ ياباني، وباستخدام الصور التشريحية وُجد أنّ إصبع الباندا الذي كان يُعتقَد أنّه زائد عبثيّ بلا أيّة فائدة يلعبُ دورًا مُهمًّا يعينه على التحكّم بما يقبض عليه.

ويبدو أنّنا مهما فهمنا، فسنظلّ محدودين بزماننا وأدواتنا وإدراكاتنا، وهو ما تلمح إليه الآية الكريمة: “وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا“، ولكي أدلّل على هذه المحدودية الإدراكية أقترح أن نقرأ جيدا في مَجالَين عِلميّين، هما: نظرية الفوضى (Chaos Theory)، وعلوم الأنظمة (Systems Sciences)، لأنّهما يجعلاننا أقرب من فهم مدى تعقيد النظام الكَوني ومدى تشابك الأحداث واستحالة اختزال الأحداث لتفسيرات أوّلية، إذ المُؤثّرات والمُتأثّرات تتداخل بطريقة تعالقية معقّدة.

بمعنى أن الحدث الواحد في الكون مهما بدا بسيطًا إنّما يُعيد تشكيل النظام الكونيّ ويؤثّر فيه بشكل كلّي، وحسبك أن تتخيّل نقطة يخرج منها مئات الآلاف من الخيوط المطاطية، وهذه الخيوط مربوطة بالملايين من النقاط، المربوطة بدورها بمئات الآلاف من الخيوط، ثُمّ تقوم أنتَ بتحريك النقطة الأولى سنتيمترًا واحدًا فقط؛ تخيّل كيف ستتأثّر الشبكة بأكملها وتتشوّه وتظهر بمظهرٍ جديد.

 

وهكذا، فحينما يموت إنسان واحد، يُعاد تشكيل معادلات الطاقة في الكون ولو بشكلٍ جُزئي وبسيط كمّيًا من جهة فيزيائية، وكذا تُعاد تشكيل معادلات الإنتاج والاستهلاك، اقتصاديًا، وتُعاد تشكيل مركّبات التربة التي دُفنَ فيها، كيميائيًا، ويُعاد تشكيل الاستجابات العصبية في أدمغة أهله وأحبابه، نفسيًا، وقد تتغيّر شبكة علاقات العائلة، اجتماعيًا. فما نراه حدثًا واحدًا كما ندركه قد يكون ملايين الأحداث ممّا لا ندركه. وحول هذه التداخلات يقول جوزيف بوبر-لينكيوس: “إنّ كُلّ مرّة يَموت فيها إنسان، تموت مَعه مجموعة عَوالِم“.

وقد يظنّ الإنسان دائما أنّه مركز للأحداث الكونية، لكنّ للخالق في كثير من الأحيان، كما تُبدي النصوص، تدبيرا آخر في مكان آخر، وكمثال للتوسيع الإدراكي لهذه المسألة، فقد جاءت مع قصّة سليمان، حينما نقل القرآن للإنسان، وعي النمل بعملِ الإنسان، وكأنّه يقول له إنّ ما تفعله في هذا الكون يطولُ غيرَك، وأن تدبير الخالق يرعى كلّ موجود، وحسبك من هذا ما جاء في الحديث النبويّ: “ولولا البهائم لَم يُمطَروا”، أيّ إنّ الله أراد بقوم منعوا الزكاة أن يحرمهم الغيث، ولولا وجود البهائم بينهم على الأرض لما أمطرهم، وهذا تجسيد بسيط على أنّ الله إنّما يُدبّر للإنسان ولغيره، وللكون بأكمله، مهما جعل الإنسان نفسه مناط الفعل الإلهيّ ومنتهاه، وهذا من كمال الربوبية وجلالها وجمالها.

وعودة على نقطة الفهم البشريّ للأحداث، ستكون هذه مناسبة جيدة لشرح جزء بسيط من فلسفة النظم، بما يخدم السياق. يُمكِن تقسيم مستويات العلاقات بين الأنظمة التي نرصدها في هذا الوجود كبشر إلى أربع علاقات:

  • علاقات خطّية (Linear)، وأحد الأمثلة عليها أن تقوم بإدارة قرص التحكّم بدرجة صوت المذياع، فكلّما أدرته ارتفع الصوت، وكلّما أدرته بالاتّجاه المعاكس انخفض الصوت.
  • علاقات غير خطّية (Non-Linear)، وأحد الأمثلة عليها أنّك لو قُمت بتناول كيس بلاستيكي (نايلون)، وأخذت تشدّه بكِلتا يديك، فإنّه سيتمدد قليلا لمسافة معيّنة، ثُم سيتشوّه فجأة ولن يرجع لحالته الطبيعية (لاحظ أنّه في مراحل الشدّ الأولى كان يسير بطريقة خطّية، قبل أن يتشوّه).
  • الأنظمة المُعقّدة (Complex Systems)، وأبسط الأمثلة التوضيحية لها أنّك لو جئتَ بحبّة رمل على طاولة، ثُمّ وضعتَ حبّة أخرى بجانبها لتستقرّ كل حبّة في موضعها، وهكذا تُضيف كل مرّة حبّة جديدة فوقها وجانبها حتى تصير كومة رمال في حالة استقرار، فإنّك لو أضفتَ بعد هذا كلّه الحبّة رقم مليون مثلا، على هذه الكومة، فجأة سينهار كوم الرمل، عبر انسياب سيل من الرمل على جانب الكومة للأسفل، مع أنّنا قبل هذه الحركة لَم نحصل على “جزء واحد من المليون من الانسياب” عند وضع حبّة الرمل الأولى. ما حدث فعليا هو أنّ النظام قد وصل مستوى مُعيّنا من التعقيد، أدّى إلى ظهور سلوكيات جديدة في النظام (مثل انسياب سيل الرمل) لَم تكن تظهر أجزاء منها من قبل. تُسمّى هذه السلوكيات الجديدة بالصفات المنبثقة (Emergent Properties).
  • الأنظمة المتكيّفة (Adaptive Systems)، وهي شكل من أشكال الأنظمة المُعقّدة بالأساس، لكنّ العناصر الأولية لهذا النظام ليست صلبة مثل الرمل في المثال السابق، وإنّما وحدات متكيّفة، مثل البشر أو اقتصاديات السوق أو النظام العصبيّ في مخّ الإنسان.

exploring_traffic


وقد تتساءل: ما علاقة هذا كلّه بموضوعنا؟ إنّ الإنسان من حيث إدراكه للأحداث في اللحظات الآنية لا يستطيع أن يلحظ نمطا مفهوما أكثر من العلاقات الخطّية وبعض العلاقات غير الخطّية في أحسن الأحوال. أمّا باقي الأنظمة فإنّه يحتاج إلى العديد من أدوات المحاكاة والتحليل الرياضي التي تساعده على تمثيل وتجسيد العلاقات الكونية في علاقة مفهومة.

وأبسط تمثيل لهذا أنّك حين ترى شخصا يقطع الشارع، وسيارة تسير، ثُمّ تقول إنّه “سيُدهَس”، فذلك لأنّ عقلك قادر على التنبّؤ بهذا الحدث بحُكم أنّ معادلات السرعة للسيارة والشخص الذي يقطع الشارع تسير وفق معادلة خطّية. لكن لماذا تصدمنا انفجار قنبلة أمامنا؟ بالإضافة إلى قوّتها التدميرية وصوتها وآثارها، فإنّ معادلة انفجار قنبلة تجري ضمن معادلات من نوع أكثر تعقيدا، تتسارع بشكل هائل على مستوى “الزمكان” (Spacetime)، وبشكل لا نستطيع إدراكه أساسا، وهو ما يُربكنا حين !تسأل: ما الذي حصل؟ فيجيب: لا أعلم، لقد حدث كلّ شيء فجأة، لَم أفهم ما حدث!

أمّا الخلاصة التي ينبؤنا بها علم النُّظُم فهي أن ما يتصوّره النّاس في كثير من الأحيان مُجرّدَ فوضى أو “شواش” أو أمورا غير مفهومة ليس إلّا منظومة مُرتّبة وغير عشوائية، ولكن عقولنا لا تستطيع أن تفهمها بداهة كما هي. فكلّ ما هو عشوائي هو علاقات معقّدة لم نفهمها بعد، وكل ما هو فوضوي إنّما هو خاضع للعديد من القوانين التي لا نستطيع حصرها أو فهم تأثيرها أو التنبّؤ بسلوكها المستقبليّ.


حسنًا، ما الذي يعنيه هذا كلّه؟

قد لا يعني هذا شيئًا للكثير من النّاس، لكنّه يعني أنّ جزء من فهمنا لذواتنا وللوجود من حولنا، أن نقرّ بأنّ ما نعرفه اليوم وإن بدا هائلًا وكثيرًا ومُعقدًّا لا يزال محدودًا زمنيًا وتاريخيًا ورهنًا لتراكمنا المعرفيّ الحالي، كما كان رهنًا للتراكم المعرفيّ البشريّ السابق. وهذا يعني أن لا نتشنّج كثيرًا ولا نتعنّت كثيرًا، ولا نتعصّب كثيرًا (ولا تعتمد على فَهمِك – سفر الأمثال 3:5) على (فَهمكَ فقط)، حاول أن تشعر وأن تؤمن قليلًا بما لا تعرف. وهذه منطقة جيّدًا لتُميّز أنّ منطق العقل في التصديق الحسّي، يختلف عن منطق القلب في الإيمان الغيبيّ.

وهذه مساحة جيّدًا أيضًا كيف نتذكّر الفصل بين (الموضوعيّ Objective) و (الذاتي Subjective) وأنّ عدم إدراكنا للحكمة لا يعني عدم وجودها أساسًا. تمامًا مثل عدم إدراكك الحالي للجراثيم والمايكروبات القابعة على سطح شاشة الجهاز الذي تقرأ منه هذه الكلمات، فعدم تذكّرك لوجودها وعدم تمكّنك من إدراكها لا يعني انعدام وجودها، وتمامًا مثل إغلاق عينيك عن أيّ واقع موضوع آخر، فعدم رؤيتك له، لا يعني عدم وجود، إلّا بالنسبة لك.

 وقد يكون هذا قاسٍ بعض الشَيّء، وقد يكون من المؤلم أن تدرك هذا، لكنّكَ ستتقدّم خُطوة إلى الأمام، حين تُدرِك أنّ الكَون لا يتمحور حولَكَ فقط، وأنّ العالَم الحقيقيّ أكبر من العالَم الذي ترسمه لنفسِك.  وأنّك ببساطة في عالَم لا يستطيع أن يفهم إلّا من خلال عقله، وقد صرتَ غارقًا في عالَم جاف.. يُقدّس من العقل وحده، وصرتَ تتصرّف على هذا الأساس، إلى الدرجة التي نسيتَ فيها كيف تستعمل قلبَك.

وقد تسأل في نفسك، ما المشكلة في أن أفهم بعقلي فقط؟ وحينها ستكون الإجابة بسيطة، أنتَ حينها لَن ترى إلّا ما يراه عقلك، وهذا شأنك الشخصيّ، لكنّك تُوسّع ممّا يُمكنكَ إدراكه، حين تسمح لنفسك أن ترى بغيرِ عقلك فقط، وهُنا أستذكر المثل الإنجليزي الذي يقول: إذا كان كلّ ما تملكه في يدك: مِطرَقة فقط.. حينها، ستبدو كلّ الأشياء من حولك وكأنّها مسامير.

ولا أدري لماذا تذكّرت هُنا قصّة (وجه الله) لمصطفى مستور وقصّة (الأمير الصغير) لأنطوان دو سانت إكزوبيري التي لا تنفكّ على بساطتها عن قدرتها على إعادة إنتاج المعاني، والتي جاء فيها: أجمل الأشياء في الوجود، لا يُمكِن رؤيتها ولا يُمكن لَمسُها، ولكنّك بإمكانكَ أن تحسّ بوجودها عن طريق قلبِك.


* جُزء من مَقال كُنت قد كتبته (بتصرّف). منشور على الجزيرة – ميدان هُنا