الله الذي نُريد: عن الدُّعاء والعبادة
أما تستحي منّي وقد قُمتُ شاخصًا ،، أناجيكَ يا ربّي وأنتَ عَليمُ؟
فإن تَكسُني يا ربّ.. خُفًّا وفَـــــروةً ،، أُصلّي صلاتي دائمًا وأصومُ
وإن تَكُن الأُخرى ،على حالِ ما أرى ،، فمَن ذا على تركِ الصلاةِ يلومُ؟
– (أخبار الحَمقى والمُغفّلين، إبن الجَوزيّ)
يبدو الاحتجاج الوجوديّ عند البَعض كمشكلة شخصية مع الله، مشكلة من حيث أنّ الله لا يسير وفق خُططهم وأمنياتهم. إنّ الإيمان عند الكثير، إيمانٌ معكوس رأسًا على عقب. فحينما يقول امرؤٌ ما.. أنّه يعبُد الله أو يؤمن به، فإنّه يتوقّع من الله، أن يُطاوعه ضمنًا في كلّ ما يتمنّى ويريد، هكذا فجأة ينقلب الإله إلى ماردٍ سحريّ لتلبية الطلبات، وبدل أن يكون المَعبود الذي يُملي طُرق عبادته، يصير الخادمَ الذي عليه أن يُلائم توقّعات مَن يُؤمن به وأن يُرضيه. وحينما يفشل الإله بتلبية طلباته أو تحقيق توقعاته، تظهر العبارات الاحتجاجية والاعتراضات السلوكية كبرهنة على فشل الإيمان.
لكن تسوء المشكلة أضعافًا، حينما يفترض المؤمن، أنّ الله يعَمَل بطريقة خطّية Linear بحيث أنّه كلّما زاد عدد مرّات الدعاء والتسبيح والصلاة، يصير الله أكثر مطاوعةً له وأسرع تلبيةً لطلباته، وكأنّه حاشاه يعمل بطريقة التحفيز/الاستجابة Stimuli/Response. أو أن تتحوّل العبادة إلى علاقة تجارية لتحقيق المكاسب النفعية، وكأنّه يقول:
يا ربّ! هذا ما لَكَ ! (من عبادة وطاعات)
فـ هَاتِ ما لي ! (من مكافآت وأموال ونجاح)
هكذا كما تذكر الأبيات الشعرية الأولى، التي قالها أحد الأعراب، أنّي يا ربّ كما تراني، واقفٌ أُناجيكَ، فارزقني خُفًّا وفَروةً، حذاءً ولباسًا، غذاءً ووظيفة، ولكنّكَ إن لَم تَفعل، فمَن ذا الذي سيكون بإمكانه لَومي على ترك الصلاةِ والصيام؟.
هذا بالطبع يُعيدنا لمسألة العبودية، ومسألة استحقاق الله للعبودية ابتداءً لأنّه هو هو، ولأنّه المستحقّ للعبادة، ولأنّه المُتفضِّلُ ابتداءً بالإيجاد وثانيًا بالإمداد. إذ المشاكل المفاهيمية تبدأ كلّها، حينما نبدأ بإنزال الله من مقام الألوهية إلى مَقام الإنسيّة، وحينما نرفع الإنسان من مقام الإنسية إلى مقام الألوهية. هذا الخلط البدهيّ يحدث كثيرًا وبشكلٍ لا واعي. إنّنا نعتمد على النّاس اعتمادنا على الإله، ونتوقّع من الله ما نتوقّعه من النّاس.
ومن الصحيح أنّ النصوص كثيرة وصحيحة وصريحة في أنّ للإيمان مكاسبه النفعية والدُنيوية، وهذا مما لا أنكره ولا ينكره المقال، ولا ينكره إلّا غيرُ مؤمنٍ. ولكن مجال الّلبس الذي أتحدّث عنه ثلاثة أمور. أولًا، أن يكونَ هذا منطلق الإنسان في إيمانه، فإن كان كذلك، فلعلّه شركٌ خَفيّ، يعتمد فيه الإنسان على عبادته، أو يعبد فيه الإنسان مكاسب إيمانه، وليس الله. وثانيًا، أنّ الإنسان يُريد أن يُحدّد كيفية هذا المردود الدُنيويّ بالطريقة التي تناسب رغباته لا بالطريقة التي يريدها الله، ومَكمَن الخطأ في هذه المسألة أمور عديدة، منها أنّ الإنسان يتصوّر أنّه يعرف ما يريده تمامًا، ويعتقد أنّ الخيرَ له في مسألته، وهذا خطأ، إذ الإنسان مُحدودٌ بقصوره الإدراكيّ، ولطالما تُثبت الأيّام له، بعد تحقّق سؤالَه وطلبه أنّه كان ساذجًا ومُخطئًا. وثالثًا، أنّ في وضع الإنسان لنفسه مكان الله في افتراض أي الأدعية يجب أن تُجاب، وفي أنّ هذا المصير أو القضاء هو استجابة خير أو شرّ، فعل تألّي، يبدو فيه وكأنّه أفهم من الله وأكثرُ حكمةً وأقدر على تحديد الخير والشرّ والصواب والخطأ.
هكذا فإنّ جوهر الإيمان الصبر، ومنزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، كما يقول الإمام عليّ. وجوهر الصبر عند العارفين، أن نتحمّل ما لا نفهم. وهكذا فإنّ الإيمان بطبعه تصديق لما هو غيبيّ بالأساس، إنّه ثقة بما لا نملك أن نبرهن على وجوده الحِسّي. إنّ الإيمان تسامي على ما هو ماديّ. وهكذا فإنّ جوهر العبودية، الرِضى غير المشروط، والقبول بالمكروه بنفس الطريقة التي نقبل بها المرغوب، قال: (عجبًا لأمرِ المؤمن، إن أمرُهُ كلّه خَير)، فكَم تبدو المقولات البديهية، أساسية حينما تُنسى، فكان عليكَ على الدوام أن تستعيد، ما قلته وما اعتدتَ أن تقوله: أن تؤمن بالقدر خيره وشرّه.. خيره وشرّه. أو كما قيل: اعبد الله بالرضى، فإن لم تَستَطع، فـ بالصبر على ما تكره خيرٌ كثير. قال.. فلمّا فرغَ من ذكر الحديث، قال: وليسَ ذلكَ لأحدٍ.. إلّا للمُؤمِن.
ومن النّاس مَن يَعبُد الله على حَرف
فإن أصابه خَيرٌ.. اطمأنّ به
وإن أصابته فتنة.. انقلبَ على وجهه
– (سورة الحَجّ، آية 11)
مَعنى [على حَرف] عند المُفسّرين، أيّ [على شَكّ] أي بعض النّاس يعبدون الله على شكّ، ونزلت الآية في أعراب كانوا يقدمون إلى المدينة، مهاجرين من باديتهم، فيعلنون إسلامهم، فإن نالوا رخاء العيش والرزق الكثير بعد الهجرة والدخول في الإسلام استمرّوا على الإسلام، وإن تعرّضوا لفاقة أو مصيبة بعد إسلامهم، انقلبوا وارتدّوا عن الإسلام. لكن الجميل أنّ كثيرًا من أولئك الذين يعتبرون القرآن نَصّ قصصي وتاريخيّ قديم، يفعلون الأمرَ ذاته الذي يصفه القرآن، فحينما تسأله عن سبب تحامله أو مأخذه على الدين، وبعد حفرٍ عَميق، يُفصحُ لكَ عن مشكلته الشخصية معه، في أنّ إيمانه لَم يَعُد عليه بمردودٍ إيجابيّ أو ماديّ كما كان يتوقّع منه، من تلبية حاجاته، أو لأنّ الإيمان كان حاجزًا ومانعًا دون أن يُحقّق رغبةً من رغباته أو هوًى يعشق من أهوائه، ولأنّه وقع في تنافرٍ كبير بين ما يرغب وما يمليه عليه إيمانه، أو بين ما يشتهي وبين ما يحذّره منه إيمانه، فإنّ أقصر الطرق أن تنكر أحدهما، أو تلفّق أو تُعيد التأويل، فتمارس شيء من العقلنة Rationalization كوسيلة دفاعية لتخفيف الصراع الداخلي وحلّه.
مَتى كُنتَ:
إذا أُعطيتَ.. بَسَطكَ العَطَاء
وإذا مُنعتَ.. قَبَضكَ المَنع
فاستدلّ بذلك على: ثُبوتِ طُفوليَتِك وعَدَمِ صِدقك
– (الحِكَم العَطائية، ابن عطاء السكندريّ)
لا نتحدّث هُنا عن إيمان وكُفُر، بل نتحدّث عن السموّ في مستويات الإيمان، وأن تكونَ ذاتًا أكثرُ نضجًا في منازلِ الإيمان. فإبن عطاء هُنا يقولُ لنا ما معناه: متى كُنتَ مُقبِلًا على الله، فأعطاكَ وأكرمك ورزقك، ففرحتَ بعطائه فرحًا جعلكَ تتعلّق بالعطاء نفسه، وأضف لهذا، أنكَ متى حُرمتَ أو ابتُليتَ، فخفّفتَ من إقبالِك، وأزعجك الحرمان والمَنع، فاستدلّ بهذا كُلّه على طفوليتك، وصبيانيتك وعبادتُكَ التجارية. هذا يُذكّرنا بالطبع بالقول المنسوب إلى الإمام عليّ في نهج البلاغة، حينما قال:
إنّ قومًا عَبَدوا الله رغبةً، فتلكَ عبادةُ التُجّار
وإنّ قومًا عَبَدوا الله رهبةً، فتلكَ عبادةُ العبيد
وإن قومًا عبدوا الله شُكرًا، فتلكَ عبادة الأحرار
ولا شكّ أنّ هذا القَول، فيه نظر، فعبادةُ الله، رغبةً ورهبةً هو مَطلَبُ الله نفسه في قرآنه، وعبادة الله طَمَعًا بعطاياه، وخوفًا من عقابه، إنّما هو من تبعات الإيمان، ومقتضياته وما أكّدته النصوص والأحاديث وأدعية النبيّ الكريم. وهو أمر يتلاءم بالطبع مع الفطرة البشرية، ونفسية الإنسان وجاهزيته التكوينية الإدراكية Reward/Punishment System. لكنّ ما يتحدّث عنه الإمام عليّ هُنا، مَقام العبودية الذي يرتضيه المَرء لنفسه، شيء من الإرتقاء والسُموّ. فتصوّر الإنسان لفلسفة العبادة أمرٌ في غاية الأهمّية.
مَن يفهم فلسفة العبادة، يُحسن التعبّد. فالعبادة فلسفة، وسيختار كلّ عبد المقام الذي يرتضيه لنفسه. فمَن يُحبّ لَن يقبل بأقلّ من الحُبِّ مقامًا. ومَن يُحبّ يكره أن يُبنى حُبّه على سبب. لأنّ كُلّ حُبّ يُبنَى على سبب، يزول بزوال السبب. ومَن يتعلّق بذات المَحبوب، يُحبّه لأنّه هُو هو، لا لشيءٍ سواه. وفيه قول رابعة العدوية: أُحبّكَ حُبّينِ.. حُبّ الهَوى، وحُبًّا لأنّكَ أهلٌ لذاكا. ومن التطبيقات التي تُعيننا على فهم كيف أنّ فلسفة العبادة تؤثّر على كيفية التعبّد، ما ذكره الإمام أبو حامد الغزاليّ في إحيائه، باب: أسرار الصَوم، وهو تقسيم جَمَاليّ، لا تقسيم شرعيّ:
– صوم العموم: كَفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة
– صوم الخصوص: كفّ السمع والبصر والّلسان واليدّ والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
– صوم خصوص الخصوص: صوم القلب عن الهضم الدنيّة، والأفكار الدُنيوية، وكفّ القلب عمّا سوى الله.
فَمُوجَزُ القَول، لا يَعيبُ المَرءُ أن يعبدَ الله خوفًا وطمعًا، ورغبةً بتحسّن أحواله وخوفًا من سخطه وحرمانه، بل هذا مَطلَبٌ شرعيّ، ومُقتضى الإيمان، وتصديقٌ للأمر الإلهيّ. لكنّ أن لا يتوقّف إيمانُ المَرء على العطاء والحرمان، وأن لا يَفتُرَ إحسانه بالحرمان.
ولا تَعتَمد على فَهمِك
– (سفر الأمثال 3:5)
حينما نُحاول أن نفهم الدُنيا ومصائر الناس فهمًا تحكمه رغباتنا، يصير الوجود مسرحية عبثية لا يُمكن فهمها، إنّ الأحداث تُشوّشنا خاصّة، حينما نرى البَعضَ ترفعهم خطيئاتهم، والبَعض تقتلهم فضائلهم. هكذا حينما نرى شخصًا طيّبًا عابدًا زاهدًا خَلوقًا يفشل أو يمرض، في الوقت الذي نرى فيه شخصًا سارقًا خبيثاً وظالمًا، يترقّى أو يترفّه، نُصابُ بالتشويش والارتباك. لكنّ الإشكال الحَقيقيّ يحدث نتيجة هذا الاستقراء الخاطئ، الذي يستند في جوهره لتصوّرات ضمنية للعاقبة الأخلاقية Karma، في أنّ العاقبة السيئة ترجع على أولئكَ السيّئين بالأساس، وفي أنّ العاقبة الجيّدة تحصّل لأولئك المُحسنين بالأساس. لكنّ هذا التصوّر مُشكِل من جهة الأديان التي تَعِد الناس باليوم الآخِر ويومِ الحِساب، لأنّه إذا صحّت العاقبة الأخلاقية (بشكلها المُطلَق) في أنّ كل فعل ظالم سيعود على صاحبه بالعاقبة السيّئة، وفي أنّ كلّ فعل حسن سيعود على صاحبه بالعاقبة الحسنة، فإنّ من شأنِ هذا أن يُلغي قيمة وضرورة وجود اليوم الآخر، إذ لو كان الأمرُ كذلك لخرجنا كلّنا من هذا الوجود، وقد أخذنا عاقبة ما استحققناه، فتنعّمنا بما عادت عليه فضائلنا به من نِعَم، وقد تطهّرنا من ذنب أفعالنا السيّئة بما عادت علينا به من عواقب وخيمة وسيّئة.
يعتقد الجُزء الأكبر من النّاس، أنّ التضييق الدُنيويّ على أحد الأشخاص، إنّما هو دلالة على مكانته عند الله، وأنّ الإكرام الدُنيويّ لشخص ما في الدُنيا، إنّما يعكس مكانته عند الله. أمّا القرآن، فإنّه يُحدّثنا بشكل واضح وصريح عن هذا المُعتَقَد بالرفض، إذ يقول: فأمّا الإنسانُ إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه ونعّمه، فيقول ربّي أكرمن. وأمّا إذا ما ابتلاه فقدرَ عليه رزقه، فيقول ربّي أهانن. فيُجيب القرآن: كلّا!. أي ليسَ الأمرُ كما ذهبتم إليه، ليس الأمرُ إنّ الإكرام الدُنيويّ دلالة على الإكرام الأُخرَويّ، وليس التضييق الدُنيويّ دلالة على مكانة المَرء السيّئة عند الله. ولو كان الأمرُ كذلك، لما صحّ ابتلاء الرُسُل، ولا مُصاب أعظم ممّا أصاب أولي العزم من الرسل.
إن كان الأمرُ كذلك، فكيفَ إذًا، إنّ الإكرام وَحده في أن تُوفّق للرضى والتسليم وفعل الخير والإحسان. وفي هذا قول النبيّ الكريم: إنّ الله يُعطي الدُنيا لمَن يُحبّ ومَن لا يُحبّ، ولا يُعطي الدّين إلّا لِمَن يُحبّ. ويشرح الحديث، قول ابن عطاء الله السكندريّ، في حكمته: إذا أردتَ أن تعرِف عند الله مَقامَك، فانظر فيما أقامَك. أيّ انظر فيما أنتَ فاعله، فإن أقامك في فعل الخير والإحسان وطلب العِلم ومساعدة الآخرين ونفعهم وإن أقامك في إرضاء أهلك ومَن حولك، فمَقامُك عند الله الخير. وإذا وجدتَ نفسكَ، مفتعلًا لكلّ سوء، وتمشي في ظلم الناس، وفي دمائهم والخوض في أعراضهم، وفي السرقة والتحايل والكذب والشتيمة والنميمة، فمقامك عند الله مقام سوء وخذلان. فإذا أردتَ أن تعرفَ مقامك فانهج في سلوكك الخير، ثُمّ لا تنظر لما يُصيبك، فإن أصابك مكروه فانظر في فعلك، فإن كان فعلكَ الخير ونيّتك الخير فاطمئنّ لنفسك، واثبت على فعلك، فإنّما مقامك فِعلُكَ لا ما يُصيبك. فإن كان مُصابَكَ عظيم، فاعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرَجَ مع الكرب، وأنّ مَع العُسر يُسرًا، وأنّ أفضل العبادة: انتظارُ الفَرَج.
وهكذا فإنّ القرآن كثيرًا ما يُشير إلى أنّ الإنسان لا يمكنه أن يعلم حقائق الأمور دائمًا، فقال: عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تُحبّوا شيئًا وهو شرٌ لكم. أو كقوله تعالى: عسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله لكم في خيرًا كثيرا. ويشرحها ابن عطاء في حكمه، إذ يقول: رُبّما أعطاكَ فـ مَنَعكَ، ورُبّما مَنَعكَ فأعطاكَ ! ومتى ما فُتحَ لكَ بابُ الفَهمِ في المَنع، عادَ المَنعُ عَينُ العَطَاء.
أتذكّر هُنا قولًا للرافعيّ حين قال: إنّ الله لا يُمسكُ عنّا فَضلَه، إلّا حينَ نطلبُ ما ليسَ لنا أو ما لسنا له. وهذا القول يقلب المُعادلة بشكل جميل، يجعلنا نُعيد التفكير مَليًّا في الرغبات التي نرجوها ويرجوها النّاس ونحنُ وهُم لسنا أهلًا لها، وهنا تتعرّى الذات أمام أكاذيبها، أولئك الذين يرجون عُلوًّا في الأرض، ويرجون أن يصلوا (يدعون بصيغة ترضي الله، ولكنّهم يريدون الوصول ليتمكنّوا من غير ما سألوا، فالبعض يُريد أن يُفتَح عليه باب العلم، ليُقالَ عنه أنّه عالِم، والبعض يُريد أن يُفتَحَ له باب المال ليتمكّن إلى الوصول إلى قدر أعلى من التحكّم، وهو لم يضمن بعد سريرته ولا نواياه ولا حُسنَ فعله إذا ما حصل له التمكين). وهو ما تذكره الآية: ولو بسطَ الله الرزقَ لعباده، لبَغَوا في الأرض، ولكنّ يُنزّل بقَدَرٍ ما يشاء، إنّه كان بعباده خبيرٌ بصيرٌ. فأحيانًا لا يُصلحكَ إلّا الفقر وأحيانًا لا يُصلحكَ إلّا الغنى، وأحيانًا لا يُقرّبكَ من الله إلّا الحاجة والمَرَض، وأحيانًا لا يُقرّبكَ منه إلّا الصحة والعافية، فإنّ كنتَ لا تثبت على فعل الخير وإحسان السريرة في الفاقة والشدّة والحرمان فهل تعتقد أنّك ستقدر على فعلها بالعطاء والرخاء؟. هُنا نفهم قوله: إنّ الله لا يُغيّرُ ما بقومٍ.. حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم.
- يا إمام.. ما لَنا ندعو اللهَ، فلا يَستجيبُ لَنا؟
- إنّما تدعو إلهًا.. قَدَدته (فَصَّلته) على هَواك !
من الصحيح أنّ الله يقول: ادعوني استجبّ لكم، وأنّه قال وقوله الحَقّ: وإذا سألك عبادي.. عنّي فإنّي قريب.. أُجيب دَعوة الدّاعي إذا دعاني. لكنّه تعالى يُعقِّب: فليستجيبوا لي وليؤمنوا. إذ يبدو أنّ الدعاء له منطلقاته الأساسية. ثُمّ إنّ الدّين لا يُجتزأ، ويُفهم بمجموع نصوصه ومبادئه. فمن الصحيح أنّه تعالى مُجيب الدعوات، لكنّ الله الذي قال: أجيب دَعوة الدّاعي، هو ذاته الذي قال: ولكنّ الله يفعلُ ما يُريد. وهو الذي قال: لا يُسأَل عمّا يفعل وهُم يُسألون. وهو ذاته الذي قال: كلّ يومٍ هو في شأن. فإمّا أن نُقرّ ابتداءً بالسيادة الإلهية، في أنّ الله هو المتصرّف وهو المُدبّر وأنّه يفعل ما يفعل لحكمة بالغة، وأنّ مقام الألوهية يقتضي صفة السيادة، وصفة السيادة تقتضي أن لا تُساءَل، وهو ما لا يبنغي إلّا لله. فمقام العبودية أن يعلم العبد، أنّ لله أمورًا يُبديها ولا يبتديها، يرفعُ أقوامًا، ويضعُ آخرين، ويرزقُ أقوامًا، ويحرمُ آخرين، وأنّه يُصرّف الرزق ويقسمه بين عباده أنّى شاء في الوقت الذي يشاء، وأنّه له الحُكم والأمر، وأنّه يصير إليه الأمر كُلّه.
هذه حقيقة مُزعجة، هذه الأفكار عن السيادة الإلهية وعن مصطلحات العبد والإله، ومقام العبودية ومقام الألوهية، مُزعجة للغاية، ومتى أزعجتك فكرة السيادة الإلهية، وفكرة إقرارك بعجزك وقصورك، فاستدلّ بذلك على تضخّم الأنا Ego، أو الكِبَر الذي في داخلك، أو الغرور الذي تأبى لأجله أن تُقرّ أنّ الله هو الله، وأنّك أنتَ هو أنت، وأنّ الله أعظم وأحلم وأحكم، وأنّكَ أضعف وأجهل وأفقر. وهذه حقيقة مُهمّة، مَن أراد أن يُؤمن بدينٍ لا يكسر أناه، ولا يُحطّم غروره، فليبحث عن دينٍ يُفصّله على مَقاسه، أو كما قال: إله “قددته” على هَواك، إله يسير وفق مِزاجك ووفق رغباتك، إله يُبرّر رغباتك ولا يعارضها، ويحقّق غرورك ولا يكسره. أن نصل لنقطة كهذه مع ذواتنا هو أمر أكثر صدقًا ونضجًا، إذ ليس في الأمر مُشكلة، لتكن الأمور بهذا الوضوح، وأن تُقرّ لنفسِك ولغيركَ أنّ مُشكلتكَ مع الدّين، ابتداءً أنّه يتطلّب منكَ إقرارًا بعجزك، واعترافًا بضعفك، وأنّه يكسر ما بك من تأليهٍ لذاتك وأنّه لا يُلائمُ رغباتك أو تطلّعاتك. هذا الشكل من الإقرار أكثر نُضجًا من السخط الصبيانيّ ومن الالتواء عن حقيقة نفورك من الدّين، واختبائك خلف اعتراضات وشُبُهات، لا تنقض جوهر الدّين، ولا تُعيبه ولا تُسقطه بُنيويًا.
هكذا أيضًا، يكون القرآن مُزعِج لمَن يدخله بكامل أناه Ego، وبكامل كِبره وغروره، إنّ القرآن لا يهدي مَن يأتيه قارئًا له بُكلّ غروره، مُتمسّكًا بكُلِّ تألّهه، ومُنكرًا لمحدوديته وضعفه. بل على العكس تمامًا، فإنّ آيات القرآن بوصفِ القرآن نفسه، تزيد المُتكبّرين كِبرًا، وتزيد الظالمين ظُلمًا، (وأمّا الذينَ في قلوبهم مَرَضٌ.. زادتهم رِجسًا إلى رِجسهم). هكذا فإنّ القرآن لا يعطيكَ نفسه، إلّا إذا أقبلتَ عليه بتواضع وتسليم، لا يُعطيكَ نفسه، وأنتَ تأتيه بكلّ حمولتك النفسية من غضب وحقد وكراهية وكبر وتعنّت. بل على العكس تمامًا سيُزعجك، وستستدلّ على سوءه الذي يخدم تصوراتكَ المُسبقة بالأساس. فإذا أردتَ أن تفهم القرآن، فـ ضَع أناكَ جانبًا قبل القراءة، وإذا أردتَ هذا الدّين، فإنّك تحتاج إلى إقرارٍ صريح وتصارعٍ عنيف مع حُبِّكَ لذاتك، وتأليهكَ لنفسك، وعبادتكَ لرغباتك، قال، وهكذا تفهم قول النبيّ الكريم، لمّا قال: حتّى يكونَ اللهُ ورسولَه أحبُّ إليه ممّا سواهما.
هذا يُعيدنا لمسألة الدّعاء، والدُّعاء عند العارفين، مُخُّ العبادة، وأنّ أجلى تجلّيات عبودية المَرء لله الكريم، تتجلّى في الدعاء والإلحاح في الدُّعاء والاستمرار عليه، والثبات عليه. بل إنّ صلابة إيمان المَرء تتجلّى بثباته على الدّعاء خاصّة إذا انقطعت الأسباب وطال البلاء، واشتدّت الأيّامُ ظُلمَةً وحلكة. لكن التنويه يكون في أنّ ما أنتَ مُطالبٌ فيه هو الدُّعاء والإلحاحَ به والاستمرار عليه، لا كيفية الاستجابة وشكلها وخصائصها، فهذا شأنٌ يختصّ الله به نفسه، فهو الأحكم والأعلم والأقدر، وفي هذا قولُ ابن عطاء في حِكَمه: لا يَكُن تأخّر أَمَدِ العَطاء مع الإلحاحِ في الدّعاء – مُوجِبًا ليَأسِك؛ فهو ضَمِنَ لكَ الإجابةَ فيما يختارهُ لكَ، لا فيما تختارُهُ لنَفسِك، وفي الوقت الذي يُريد، لا في الوقت الذي تُريد.
وتمامُ الإيمان، وجوهرُ الإيمان أن تَعلَم أنّ الله يَقدِر، فمَن ظنّ أنّ هُناك حالًا لا يُمكِن إصلاحه، أو مطلوب يعزّ تحقّقه، أو مرهوب يستحيل رفعه، أو أنّ أمرًا انقطعت أسبابه، لَن يكون بالإمكان تغيير حاله إلى عكسه أو ضدّه، فقد استعجز القُدرة الإلهية، وممّا قد يُشكّك في حقيقة إيمان المَرء. وفي هذا قول ابن عطاء السكندريّ، في حِكَمه: من استغرب أن ينقذه الله من شَهوته، وأن يخرجه من وجود غَفلته، فقد استعجز القدرةَ الإلهية (وكان الله على كلِّ شَىءٍ مُقتَدرا). وهذا موضع جيّد لتذكّر كلّ تلكَ المصائب التي تعرّض لها أنبياء الله في كتابه، ممّا ذكر، وكيف أنّهم بلغ بهم الأمر حدّ انقطاع الأسباب وبوادره الدُنيوية، لكنّ الردّ (قال كذلك قال ربّك هُو عليّ هَيّن) وكان ردّ مُوسى لقومه وهو مُطارد من أمامه البحر ومن خلفه ستدركه الجيوش، أن قال (كلّا إنّ مَعيّ ربّي سيهدين).
إذا أردتَ أن تجعَلَ الإلهَ يَضحَك، فأخبرهُ عَن خُطَطِك.
– (مَثَل إسبانيّ، The Routledge Book of World Proverbs)
تظنُّ نَفسَك تعرفُ ما تُريدُ حقًا، ثُمّ تُبدي لكَ الأيّامُ ما كُنتَ تجهله. هكذا تأتي أحيانًا على مُفتَرَقِ طُرُقٍ من عُمُرِك، تظنُّ أنّك مُتأكّدٌ جدًّا من المَسار الذي تُريد أن تسلكه، تدعو بحرارة، تُصلّي، وتقول: هذه يا ربّ! هذه فقط وستكون حياتي كلّها بعد هذه على ما يُرام. هكذا تجدُ نفسكَ واثقًا تمامًا من أنّكَ تُحبّ هذا الشخص حُبًّا جنونيًا، تدعو بحرارة، تُصلّي مِرارًا، وتقول: هذه يا ربّ. لا أريدُ شيئًا كما أريد هذه الرّوح. ويحدثُ كثيرًا أن يُكرِمُكَ الله بأن لا يُجيب، لتجدَ نفسَكَ بعدَ عشرينَ عامًا، في مسارٍ مُختلف تمامًا، تضحكُ على نفسك، مُستهزئًا بسذاجتك، كيف رغبتَ بهذا الشخص أو هذا المسار يومًا ما.
عَلى أنّ العِبرة تكمن، في أنّ الإنسان، بالفعل، كائنٌ مُضحِكٌ ومُبكٍ. إنّه يَدعو ويلحّ بالدعاء ويرجو ويسأل وكأنّه يعرف تمامًا ما يُريد. تمضي الأيّام، لتكشف له جهله، وقصوره واندفاعه، وتفكيره الآنيّ والّلحظيّ. ولكن هذا الجهلُ نفسُه، هذه المحدودية التفكيرية في الزمّان لصالح الآن/اليوم، هذا كلّه هُو ما يدفعه للإلحاح والاستعجال، إذ كما قال الخضر: وكيفَ تصبرُ على ما لَم تُحِط به خُبرا؟
أذكر أنّ نيكوس كانزنتزاكيس، ذكر ذاتَ مرّةٍ في أحد كُتبه، أنّ الصلاةَ عنده تقريرُ مُحَارِبٍ إلى ربّه، إنّه تقريرُ مُحارِبٍ في هذه الحياة، أن يا ربّ، هذا ما أواجهه، وهذا ما لديّ من أسلحة، وهذا ما سأفعل، فأعنّي على فعل الصواب. هذا يُذكّرني بأنّ العارفين من يسألون الله أمرَين:
- الإعانة على السّعي
- قَبُول السَعيّ
فَهُم يسألون الله الإعانة على حُسن السّعي، حُسن النيّة وحُسن الفعل، وأن يتقبّل منهم فعلهم. ولا يسألونَه الوُصول، أي أنّهم لا يسألونَه تَحقّق المكانة التي يرجون. وأفضلُ شرحٍ لهذه الفكرة، ما يذكره الإمام زرّوق الفاسيّ في كتابه “قواعد التصوّف”، من مَقولةٍ يرويها عن أبو العبّاس المُرسيّ:
مَن أرادَ الظُهور.. فهُوَ عَبدُ الظهور
ومَن أرادَ الخَفاء.. فَهُوَ عَبدُ الخَفاء
أمّا مَن أراد اللهَ، وهُوَ عَبدٌ لَهُ..
فهو الذي إذا شاءَ أظهره.. وإذا شاءَ أخفاه