السمات الخَمس للشخصية (1): عن السلوك والزواج والتوجّه السياسيّ

BY: Administrator

“أعظم الأكاذيب شيوعًا، تلكَ التي نُوجّهها لأنفُسنا”
– نيتشه

 

مُقدِّمة وتمهيد

تٌشوّش خطابات التنمية البشرية والطاقة الداخلية التي لا يستند معظمها على أيّة أبحاث عِلمية، على الناس عقولَهم وفهمهم لأنفسهم. إنّها تلغي الحدّ الفاصل بين ما هو عِلمي وغير عِلمي، وبين ما هو ممكن وغير ممكن، ولأنّها لا تأخذ بعين الاعتبار تفرّد الأشخاص وتُساويهم ببعضهم كأنّهم ذوات متطابقة مرّت بظروف متماثلة، فهي تُلغي الشروط الموضوعية التي يواجهها الأفراد في حياتهم، وتُلغي العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنشأة والتربية والطفولة. بالإضافة لذلك، فقد لعبت مواقع التواصل الاجتماعيّ وتطبيقاته مثل “اعرف شخصيتك” و”مَن تُشبه من المشاهير” و”ما هي صفاتك؟” دورًا رئيسيًا في تشويه الطريقة التي يتعاطى بها الناس مع ذواتهم وأخذها على محمل الجدّ وحتّى في تعميق فهمهم لأنفسهم.
قد تشيع هذه الأفكار والتطبيقات لأنّها قد تُشبع الفراغ الذي يخلقه التمنّي لما نطمح أن نصبح عليه أو لأنّها في كثير من الأحيان تقول كلامًا عامًّا يصلح للجميع أو لأنّها أبعد من هذا، تقولُ لنا  تمامًا ما نريد أن نسمعه، كلام عن أنّك إنسان جيّد تشعر بأنّك تحتاج التقدير ولكن لا أحد يُقدّرك للأسف، وأنّ الناس يستغلّونَكَ لطيبة قلبِك، إنّها تخلص في نتائجها لعزاءات يودّ معظمنا سماعها، مجموعة من التأكيدات التي نبحث عن أحدٍ ما ليقولها لنا، حتّى لو كُنّا نعرف في قرارة أنفسنا عكس ذلك، وحتى لو كان الآخرون والواقع يشيرون لغير ذلك.
ينظر جزء غير قليل من الناس إلى علم النفس نظرة مليئة بالريبة والشكوك والتصوّرات الخاطئة في الغالب. قد يظنّ المرء على سبيل المثال، أنّ عالم النفس شخص بإمكانه تحليليّ بالضرورة أو أنّه يستطيع إغوائي والإيقاع بي أو تعريتي داخليًا فقط من خلال النظر إلى عَينيّ، قد يُظنّ أنّ لديه قدرة على النفاذ إلى داخلي وكشف ما بي من أكاذيب وعيوب، وهذا بحدّ ذاته أمر مُربِك ومُزعِج. والحقيقة أنّ هذه التصوّرات غير دقيقة، إذ لا يستطيع كُلّ مَن يدرس عِلم النفس تحليل الآخرين أو النفاذ إلى دواخلهم. قد ينطبق هذا على بضعة مُحلّلين نفسيّين وأخصائيّين خبيرين ونادرين، لكنّه لا يُعبّر عن حقيقة عِلم النفس ومباحثه، خاصّة وأنّ ما نعرفه عن الإنسان للآن لا يرقى إلى الدرجة التي تجعل المُحلّلين قادرين على فعل ذلك عن بُعد أو بدون عدّة جلسات نفسية أو أيّة معلومات كمّية أو تفاصيل شخصية من لسان المُتحدِّث نفسه.
في المقابل تأسّس عِلم نفس الشخصية كفرع عن عِلم النفس العام. كانت المحاولات الأولى لهذا العِلم سطحية وساذجة بعض الشيء، تربط بين شخصيات الناس بناءً على شكل أجسامهم (ممتلئ، نحيل، معتدل) ولكن سُرعان ما أثبتت هذه التنصيفات عدم فاعليتها وعدم قدرتها على التعميم والتنبّؤ السلوكيّ. لاحقًا، صار اهتمام علماء النفس بمجال الشخصية والسلوك البشريّ، هاجسًا أساسيًا مدفوعًا بدوافع اضطرارية بعد الحرب العالمية الثانية، مثل الحاجة المُلحّة للتعامل مع الأشخاص المصابين بالاضطرابات النفسية والمصابين بالصدمات والاكتئاب وعلاجهم. وحصل تقدّم عِلميّ كبير في هذا المجال، نتيجة لتقدّم البشرية في مجالات أخرى مثل التقنيات الطبّية وأجهزة تصوير النشاط الدماغيّ وعلوم الأعصاب والدماغ والاكتشافات العِلمية للنواقل العصبية والأدوية، بالإضافة للعديد من الحوادث العشوائية وبعض الاكتشافات عن طريق الصدفة. وقيمة هذا المقال في أنّ المحتوى العربيّ يبدو فقيرًا بالنظريات الحديثة لعلم نفس الشخصية.


 

“ما أتعس ذهنًا لا يُصغي لما هو خارجه و لا يهدأ ويشتبك مع نفسه”
– حسين البرغوثيّ

 

عِلم نفس الشخصية

تُعبِّر السِمَة  Traitعن الاتّجاهات الأكثر ثباتًا بشكل عام في شخصية المَرء، وهي بذلك تفترق عن المِزاج والطَبع الأقل ثباتًا والأكثر تبدّلًا. والشخصية هي الصيغة النهائية الناتجة عن تفاعل مُجموعة من السِمَات مع بعضها البعض، وهذه الصيغة تظهر على شكل السلوك والاستجابة والمشاعر للمواقف والأشخاص خلال الحياة.
وُضِعَت العديد من النظريّات التي حاولت تفسير شخصية الأفراد، إمّا على أُسس التحليل النفسيّ أو السلوكيّ ومرورًا بنظرية سِّمات الشخصية التّي تفرّع عنها عدد من النظريات مثل مقياس كاتل وآيزِنك للشخصية والسّمات الخمس الكُبرى، والأخير هو موضوع المقال.


 

نموذج السِمَات الخَمس الكُبرى

 

يُعَدّ نموذج السِمات الخَمس الكُبرى للشخصية Big Five Personality Traits واحدًا من أهمّ النماذج العِلمية المُستخدمة في عِلم النفس الحديث والأكثر تداولًا في الأوساط العِلمية. ويشيع استخدام نموذج السِمَات الخَمس الكُبرى على الرغم من وجوده نماذج أخرى غيره، لعدّة أسباب:

  • أولًا: لأنّه استند على مجموعة من الأدلّة العِلمية الكمّية والنوعية.
  • ثانيًا: لأنّه أثبت قدر من الفاعلية والتنبّؤ على المستوى العَمَلي.
  • ثالثًا: لأنّه يُبدي قدر من الثبات النسبيّ مع التقدّم في العُمُر.
  • رابعًا: لأنّه يُمكِن قياسه بشكل موضوعي إلى حدّ ما.

تأسّس نموذج السِمَات بشكلٍ أساسيّ على أُسس مزجت بين النَهج المَعجَميّ والنَهج الإحصائيّ، وهو جُهد تراكمي قام به عدد من الباحثين بجمع أكثر من 17 ألف مُفرَدَة من المُعجَم (إنجليزية ولاحقًا تمّ جمع مفردات من معظم اللغات والثقافات حول العالَم) يستخدمها الناس للتعبير عن أنفسهم وعن شعورهم وعن سلوكيات الآخرين تجاههم. ثُمّ وُجد أنّ هذه الصفات تُرَد في معظمها إلى خمس مجموعات رئيسية تُشكِّل السمات الخَمس التي نعرفها اليوم: التوافقية A والانضباطية C والانبساطية E الانفتاحO  والقلق العاطفي N.
يُعطي مقياس السِمَات الخَمس نتيجته على مقياس مئوي لكل سِمَة، بحيث أنّ الزيادة تعني الإفراط والقلّة تعني السمة ونقيضها بحسب النتيجة، وبالتالي هو لا يُعطيك نوع شخصية، لكنّه يُعطيك سماتك الشخصية والمقياس الذي تُسجّله بكُلّ سِمة.هذا ما يجعل نموذج السِمَات الخَمسَة الكُبرى أكثر دقّة، مرونته، وقدرته على التعبير على الفروقات الفردية بشكل مناسب.
وعلى سبيل المثال قامت شركة Five labs بالقيام باختبار سِمَات الشخصية لعدد من المشاهير عبر حساباتهم على الفيسبوك، ولكيّ نتخيّل كيف تكون نتيجة اختبار السِّمات الخمسة، انظر الصورة أدناه.

 

السِمات الخَمس الكُبرى Big Fiver Traits / The Five Factor Model – FFM

السِمَة الأولى: الانبساطية Extraversion ويقابلها الانقباضية Introversion
السمة الثانية: التوافقية Agreeableness ويقابلها العِدائية Antagonism
السمة الثالثة:الانضباطية Conscientiousness ويقابلها الفوضويّة Undirectedness
السمة الرابعة: الانفتاح للتجربة Openness  ويقابلها الانغلاق Non-openness
السمة الخامسة: القلق العاطفيّ  Neuroticism ويقابله الاتزّان العاطفي  Emotional Stability

تُعبّر الانبساطية بشكلٍ عامّ عن الإقبال الاجتماعيّ، وفي حال أحرزت علامة مُتدنّية على هذا المقياس فأنتَ تميل باتجاه الانغلاقية، الصفة المعاكسة للانبساطية.الانبساطيون يُحبّون الاحتفال ويُحبّون الانضمام للأنشطة الاجتماعية التي يتواجد بها الآخرون. حتّى المناسبات الاجتماعية المُملّة تجدهم  لديهم القدرة على تحفيزها وجعلها أكثر حيوية. يُحبّ الانبساطيّ الحديث والنقاش، وتُشير الدراسات إلى أنّ “الاهتمام الاجتماعيّ” هو السمة الأساسية للانبساطية. ويبدو أنّ الانبساطيّ بشكلٍ عام أكثر سعادة من غيره على المستوى اليوميّ خاصّة إذا كان نمط حياته اليوميّ أو طبيعة عمله تقتضي منه أن يتفاعل اجتماعيًا مع عدد كبير من الناس. والانبساطيون لديهم قدرة على التأثير بوسطهم الاجتماعيّ، ولذلك فهم يتقدّمون بالعادة إلى الوظائف القيادية.
في المقابل، هناك بعض الدراسات التي تُشير لوجود آثار سلبية ترجع على أولئك الذين يُسجّلون نسب عالية على مقياس الانبساطية، فهُم غالبًا، أقل قدرة على توفير المال من أجل التقاعد وأكثر تهوّرًا وتسجيلًا لحوادث السير مقارنة بالانقباضيين. فعلى سبيل المثال إذا أراد شخص انبساطي أن يأخذ إجازة ويذهب في رحلة، فإنّه غالبًا سيُفضّل أن يقضيها على الشاطئ وحيث التجمّعات البشرية، فيما لو أراد الانقباضيّ أن يذهب في رحلة، فغالبًا سيُفضِّل كوخ أو نُزُل نائي على جبل مرتفع.
تُعبّر التوافقية عن مدى قابلية الشخص للتوافق والتماشي مع المواقف والأحداث المختلفة بسهولة وبدون خِلافات. فالشخص الذي يُسجّل نِسبة مُرتفعة على مقياس التوافقية غالبًا ما يستخدم عبارات من نوع: “لا داعي للخلاف” “فليكن كذلك” “ليس لديّ أيّة مشكلة” إنّه يتماشى بسهولة مع كل موقف حتّى لو كان لا يعجبه أو لا يُفضّله. يهتمّ التوافقي بمشاعر الآخرين، ولا يُحبّ أن يجرحهم أو يُؤذيهم حتى لو كان هذا على حساب نفسه وعلى حساب تضرّره بشكلٍ شخصيّ. ينسحب التوافقيّ من الخلافات ويتجنّبها ويحاول أن يحلّها بطُرُق سلمية قدر الإمكان. ويأخذ التوافقيّ بعين الاعتبار نظرة الآخرين له والطريقة التي سيفهمونه بها، ولذلك فهو حريص على إرضائهم وتحسين صورته. قلّما يُطالب التوافقيون بحقوقهم ولا يُعبّرون عن رغباتهم، ولنفترض أنّك كُنتَ وأصدقاؤك في رحلة وقرّرتم أن تتناولوا وجبة الغداء، فإنّكَ ستجد صديقك التوافقيّ لا يجد أيّة مشكلة بأيّ قرار تجمعون عليه، حتّى لو كان المطعم الذي اخترتموه يُقدِّم طعامًا يكرهه أو لا يُحبّه.
مشكلة التوافقيّ عمومًا أنّه لا يقف مدافعًا عن نفسه أو مُطالِبًا برغباته وتطلّعاته ولذلك غالبًا ما يتمّ استغلاله والاعتداء عليه وحرمانه من الحوافز والمكافآت رغم استحقاقه لها. وفي حال أحرزت نِسبة مُنخفضة على هذا المقياس فأنتَ تتجّه باتجاه العدائية، الصفة المُقابلة تمامًا للتوافقية. ويميل العدائيون إلى الصراخ والجدال وافتعال المشاكل، إنّهم لا يُمرّرون حدثًا يعتقدون خطأه دون أن يعترضوا على الفعل والفاعل. لا يهتمّ العِدائيون بصورتهم عند الآخرين ولذلك إذا ما أزعجهم سلوك ما أو موقف ما فستجدهم مدافعين عن أنفسهم بشدّة.
تُعبِّر الانضباطية بشكلٍ عام عن قدرة الفرد على الاجتهاد المنضبط والالتزام تجاه سلوكيات أو عادات مُعيّنة. فالعَمَل الشاقّ والتفاني بالعَمَل والالتزام بالمواعيد هي الصفات الأبرز التي تُحدّد سمة الانضباطية، ولذلك فإنّ أولئك الذين يُسجّلون نِسَب مرتفعة على مقياس الانضباطية غالبًا ما يعود عليهم نمط حياتهم المنضبط بالعلامات الدراسية المرتفعة والتفوّق الدراسيّ وبإنجاز وتميّز على المستوى الوظيفيّ. بشكل عام ينبع تحقيق الأشخاص الانضباطيين للنجاح من ثلاث عوامل رئيسية: أولًا أنّهم لا يُسوِّفون ولا يُؤجّلون مهامهم. وثانيًا: يضعون لأنفسهم أهداف وطموحات مرتفعة ويطمحون للمثالية وثالثًا فإنّهم مُستعدّون لقضاء عشرات الساعات لإنجاز ما يريدون إنجازه.
في المقابل أولئك الذين يُسجّلون درجات مُتدنّية على مقياس الانضباطية يميلون باتجاه الفوضى، لا يُمكن الاعتماد عليهم، يتأخّرون بالمواعيد. وقد وجدت بعض الدراسات ارتباطات تُشير إلى أنّ الأشخاص الذي يُسجّلون نِسَب قليلة على مقياس الانضباطية غالبًا ما يُواعدون فتيات أخرى أثناء التزامهم بعلاقة عاطفية جدّية. بالإضافة إلى أنّهم أكثر عرضة للاعتقال والحبس بحكم عدم تقيّدهم بالعديد من التعليمات وعدم قدرتهم على الإيفاء بالتزاماتهم ووعودهم والمهام المُوكَلة إليهم.
أمّا الانفتاح للتجربة والفكر فيُعبِّر عن المَيل نحو التجارب الجديدة مثل تذوّق طعام جديد تجربة نمط علاقة جديدة وتقبّل ومناقشة أفكار جديدة. ويهتم أولئك الذين يُسجّلون نِسَب مُرتفعة على مقياس الانفتاح بالفنون والموسيقى من مختلف الأنواع وقد يودّون بشكل أكثر من غيرهم برسم الوشم وثقب أجسادهم. ويميل الأشخاص ذوو الانفتاح العالي إلى أن يكونوا أكثر ليبرالية من الناحية السياسية ويظهرون تعاطف أكبر مع الأقلّيات. أمّا الذين يُسجّلون نسب قليلة على مقياس الانفتاح، فغالبًا ما يكونون ذوي أفق ضيق ومنغلقين على أفكارهم وتجاربهم ويخشون الإقبال على التجارب والأفكار الجديدة.
أخيرًا تُعبِّر سِمَة القلق العاطفيّ عن الكيفية التي يستجيب بها المَرء للتقلّبات والمشكلات التي يواجهها الفرد خلال حياته اليومية. مَن يُسجِّل نِسَب مُرتفعة على مقياس القلق العاطفي غالبًا ما يعيش حياته كثير التخوّف ممّا سيجري، وممّا يُمكن أن يجري، إنّه يشعر بأنّ مُصيبة ما ستقع، وأنّ الأمور إذا لَم تَسِر كما ينبغي لها سينهار كلّ شيء، ويفترض الأسوأ دائمًا ويرى الحياة بنظرة متشائمة ومتخوّفة ويشعر بالقلق الشديد تجاهها. تجتاح الإنسان الذي يتسّم بالقلق العاطفيّ، مشاعر سلبية وتقلّبات مزاج واندفاعية بحيث لا يُمكِن أن يُسيطر على نفسه عند القلق. وأحيانًا يترافق هذا بالهشاشة بحيث يعتمد على الآخرين كثيرًا لحلّ مشاكله الشخصية.
أمّا أولئك الذي يُسجّلون نسبة مرتفعة على مقياس الاتّزان العاطفيّ (نسبة قليلة في القلق العاطفيّ) فهم يتعاملون مع تقلّبات الحياة بشكل أكثر استقرارًا ورزانة وهدوء. يُؤثّر القلق العاطفيّ على العلاقات بشكل سلبيّ أمّا على مُستوى الإنجاز في العَمَل فإنّ أصحاب القلق العاطفيّ يُنجزون أفضل من نظرائهم في حال تعرّضوا لضغط عَمَل استثنائي. ولذلك فإنّ انعدام القلق العاطفيّ خطير كزيادته، فانعدامه يجعل الشخص لا مُبالٍ وغير مكترث مهما كان الموضوع جدّيًا ويستحقّ القلق، مما يخسره العديد من الفرص.
بشكل عام الزيادة الحادّة أو النقصان الحادّ بكلّ سِمَة من السِمَات الخَمس يُنبِئ بعواقب سلبية، مهما بدت السِمَة للوهلة الأولى إيجابية، على سبيل المثال، قد يتمنّى الشخص لو أنّه  يُسجّل قيمة مرتفعة جدًّا على مقياس الانضباطية، لكنّ الإفراط بالانضباطية قد يؤدّي لسلوكيات غير محمودة، مثل أن لا تستطيع الانفكاك عن أيّ عَمَل مهما كان فرعيًا وهامشيًا دون أن تُتمّه على أتمّ وجه، ومشكلة هذا أنّ المَرء يُصبِح عالِقًا لإنجاز أمور غير مُهمة على حساب المُهِم أو مهووسًا بأن تكون الأمور جاهزة على أتمّ وجه وهو ما يستنزف وقته وجهده. والاتّزان العاطفيّ كذلك، فتسجيل نسبة مُرتفعة جدًّا فيه، وهو ما قد يتمنّاه البعض، إلّا أنّ انعدام القلق قد يُؤدّي إلى فقدان الحافز اللازم للتجهّز والتحضير لدراسة امتحان مهم مثلًا. وكذلك بالنسبة للتوافقية وباقي السِمَات.
لتحديد دقّة أكبر بالسّمات الخمسة، تندرج تحت السمات الخَمس الرئيسية سمات فرعية (تجدها عند الفروقات بين الجنسين) وبمعنى إذا قُلنا أنّ الرجال أكثر انبساطية من النساء فالذي يحصل على مستوى دقيق أنّ الرجال أكثر ميولًا للانخراط بالنشاطات المُثيرة والخَطِرة من النساء، بينما وُجِدَ أنّ النساء أكثر انبساطية على مُستوى الأُلفة والعشرة، فالسِّمة الكُبرى ينطوي تحتها دوافع مختلفة.


 

هل تتغيّر السِمَات الشخصية مع التقدّم بالعُمُر؟

في دراسة أُجريَت على أكثر من مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 10 و 65 عامًا، وجدت أنّ سِمَات الشخصية تتطوّر وتتغيّر بشكل عام مع التقدّم بالعُمر. يحدث التغيّر بشكل تدريجي وبطيء، وليس تغيّرًا حادًّا بشكل عام. المُلاحَظ أنّ ما يحدُث فعلًا مع تقدّمنا بالعُمُر، رغم بداهته هو أنّنا ننضج أكثر، بحيث تزداد سِمَة الانضباطية والتوافقية في الوقت الذي تقلّ فيه سِمَة القلق العاطفيّ ونصير أكثر استقرارًا عاطفيًا.


العامل الجينيّ والبيولوجيّ

تلعب الجينات والعامل الوراثيّ دورًا في تشكيل شخصية المَرء، وبحسب عدد من الدراسات فإنّ الجينات تلعب ما نسبته 40% تقريبًا في تشكيل كلّ سِمَة من سمات الشخصية الخَمس. وليس هُناك جينٌ مُحدّد لكلّ سِمَة، وإنّما يتفاعل بتشكيل هذه السِمات عدد كبير من الجينات يُساهم كلّ منها بتأثيرات بسيطة نسبيًا.
بالإضافة للعامل الجِينيّ، تُظهِر الدراسات وجود بعض العوامل البيولوجية. على سبيل المثال، أولئك الذين يُسجّلون نسبة أعلى بمقياس الانضباطية غالبًا ما تكون الجبهة الأمامية من دماغهم أكبر من تلك عند غيرهم، وهو ما يرتبط فيما نعلم بالسلوك التخطيطيّ والانضباطيّ. كما أنّ الأشخاص الذين يُسجّلون نسبة أعلى بمقياس العُصابية، غالبًا ما تظهر الصُوَر صِلَات دماغية تظهر استعدادية أعلى للقلق والتوتّر من غيرهم من البشر.
وقد حاولت بعض الدراسات إيجاد علاقة بين هذه السِمَات وترتيب الفرد في العائلة (الأخ الأكبر، الأوسط والأصغر) بعد تحييد باقي العوامل مثل حجم العائلة ومستواها الاجتماعيّ والاقتصاديّ، إلّا أنّها فشلت في إيجاد أيّ علاقة واضحة تربط بين سمات شخصية مُعيّنة وبين ترتيب الفرد.


 

الفروقات بين الجنسين

بحسب مجموعة من الدراسات وببشكلٍ عام، تُسجّل الإناث نِسَب أعلى على مقاييس التوافقية والانضباطية والقلق العاطفيّ. فيما يُسجَل الذكور نِسَب أعلى على مقياس الانفتاح للتجربة. لا شكّ أنّ لهذا تفسيرات عديدة، منها التفسير التطوّريّ على سبيل المثال الذي يرى أنّ المرأة بحاجة لرعاية الأطفال والرُضّع والعناية بهم وهذا يتطلّب بالضرورة قدر عالي من التوافقية لكيّ يحتملوا حاجة الأطفال المُلحّة وما يصدر عنهم من بكاء وإزعاج وأذى، ويتطلّب قدرًا من الانضباطية لإعداد الطعام والنظافة، وقدرًا من القلق العاطفي الذي يضمن حماية الطفل من الأخطار المُتوقّعة. في المقابل تمتلئ السجون بالرجال بنسب أكبر من النساء فالرجال أقل توافقية ويلجؤون للحلول العُنفية والاحتكاك الجسديّ وأكثر تهوّرًا وتعرّضًا للمخاطر.


 

الزواج والعلاقات العاطفية

أُجريت العديد من الدراسات الطولية على الآلاف من الأزواج والشركاء، وأظهرت أنّ السِمَات التي تلعب الدور الأكبر في استقرار العلاقة الزوجية والعاطفية هي نسبة مرتفعة من التوافقية والانضباطية، ونسبة مُنخفضة من القلق العاطفيّ، هذا المزيج الثلاثيّ ذهبيّ  وإذا ما تواجد بأحد الشركاء فإنّ الطرف الآخر يُبدي رضًى مرتفعًا عن العلاقة الزوجية والجنسية.
فيما وُجِد أنّ النسب المُرتفعة بالقلق العاطفيّ والعِدائية تُعتبر مُؤشّر قويّ على الانفصال في المُستقبل وعدم الرضى. بشكل عام، بحسب العديد من الدراسات، إذا كان شريكك المُحتَمَل يُسجّل نسبة عالية على مقياس العدائية (أي نسبة قليلة جدًّا على مقياس التوافقية) فإنّ هذا قد يكون مُؤشّر خطير للعلاقة المُتوقّعة، فالشريك العِدائي لا يهتمّ بالاعتناء بالآخر ويعامله بشكل لئيم، ويشعر أنّ الآخر كثير التطلّب ومُزعج، والأكثر من هذا أنّ الفُرَص مُرتفعة لأن يقوم بالاعتداء الّلفظي والجسميّ. ويُضاف لهذا كُلّه التقليل من الآخر وشتمه أو تحقيره أو وصفه بالبدين والمُزعِج والثرثار ونحوه دون مبالاة. ويُضاف للعدائية، وبشكل أقل، سِمَة القلق العاطفي التي قد تتسبّب ببعض المشاكل خلال العلاقة، ممّا ينجم عن هذه السِمَة من قلق وتخوّفات وشكوك غير مُبرّرة.
هناك نظريتين أساسيتين يتمّ تداولهما بخصوص العلاقات العاطفية، هل أختار شريك مماثل لسِمَاتي الشخصية لكيّ نتوافق؟ أم هل أختار شريك مختلف عنّي بالسِمَات ليُكمّلني؟ بشكل عام، تُشير الدراسات إلى أنّ الأزواج الذين يتقاربون بسمات الشخصية يُبدون رضًى أكبر عن علاقاتهم وينسجمون بشكل أكبر. هذا بالتأكيد مشروط بغياب العدائية والقلق العاطفيّ الّلذين قد يُدمّران أي علاقة عاطفية.  فالتشابه المطلوب مشروط وليس مستقلًّا بذاته.


 

الدين والتديّن

تُنبِئ بعض السِمَات الشخصية عن شكل التدّين الذي قدّ يتخذه الفرط لحياته. بشكل عام، يُمكِن القَول أنّ التدّين إمّا أن يكون تقليديّ أو فردانيّ. وهذا تقسيم مبدئيّ بطبيعة الحال. وليس هناك نمط أفضل من نمط، لكلّ نمط إيجابياته وسلبياته، بالإضافة إلى أنّ التدّين الفَردَانيّ هو نمط حديث نسبيًا، متأثّرًا بالتحوّلات الفردانية للمجتمعات ومُستجيبًا للتغيّرات الكبيرة التي أحدثتها المدينة الحديثة والمجتمعات المُعلمَنة والتقنية.
يُقصَد بالتدّين التقليديّ، ذلك الذي يتبع قِيَم الدين بصيغته العموميّة والشعائر والطقوس التي يمارسها أفراد المجتمع. وهو نمط مرتبط غالبًا بمذهب أو طائفة أو اتّجاه واضح وعام يتبنّى مجموعة سرديات كُبرى عن الدنيا والآخرة.
أمّا التدّين الفردانيّ، فيتبنّى فيه الفرد معتقدات خاصّة، قد تكون مُشتقّة أو مُطوّرة عن التدّين التقليديّ، ينتقي فيها الفرد شعائر مُحدّدة يعتقد بصوابها وفائدتها، ويرفض بعضها معتقدًا بخطئها أو ضررها. والفرد بالتالي لا يتبع مذهبًا وغالبًا ما يهتمّ بالممارسات الروحية والوجدانية أكثر من ارتباطه بسرديات الدين التقليديّ الكُبرى.
وقد وُجِدَ أنّ الأشخاص الذين يُسجّلون نِسَب مُرتفعة على مقياس الانضباطية والتوافقية يميلون غالبًا لأنماط التدّين التقليديّ. وبالتالي تجد أولئك الذين يتبعون لحزب ديني تقليديّ كثيرو الانضباط والالتزام والإنجاز بالإضافة إلى أنّهم يبدون ودودين ويتحمّلون الأذى بالمُجمَل.
في المقابل، فقد وُجد أنّ الأشخاص الذي يُسجّلون نسبة مُرتفعة على مقياس الانفتاح غالبًا ما يتبنّون نمط تدّين فردانيّ أو رُوحانيّ.


 

التوجّه السياسيّ

تٌشير عدد من الدراسات إلى أنّ توجّهاتنا السياسية قد ترجع أيضًا إلى سماتنا الشخصية بنسبة غير قليلة. بشكلٍ عام تُظهر الدراسات أّن أولئك الذين يتبنّون توجّهات ليبرالية، غالبًا ما يُحقّقون نسبة انفتاح Openness عالية بمقياس السِمَات  الخَمس الكُبرى، في الوقت الذي يُحقّق المُحافظون نسبة انفتاح أقلّ بمقياس سِمَاتهم الشخصية. ويرجع الانغلاق بشكل عام لدى المُحافظين لعوامل الانتماء للجماعة والشعور بالقرف، وهي عوامل ضرورية من جهة التفسير التطوّري للبقاء على قيد الحياة، فقد وجدت الخبرة البشرية في الماضي أنّ الانفتاح على الآخرين بشكل مُفرِط يُعرّضها للاختراق بالجراثيم والأمراض والجواسيس، حتّى التجارة تسبّبت بنقل الطاعون. يُقدّر المُحافظون قيمة الجماعة الداخلية، ويعتنون أكثر بالقضايا المحلّية والسياسات الداخلية أكثر من القضايا العالمية وشؤون الآخرين البعيدين عن الجماعة.
في المقابل، يجد الّليبراليون بحسب التفسير التطوّريّ ضرورة بقائية للانفتاح، فالانفتاح يُحقّق تدفّق وتبادل واسع للمعلومات الذي من شأنه أن يُعيننا على التقدّم الحضاري وإحسان استخدام الموارد وإنتاجها. فقد وجدت الخبرة البشرية في الماضي، أنّ الانفتاح على الآخرين الغرباء قد مكّننا من التعرّف على التقنيات الغائبة وتبادل الخبرات، ومكّننا من الوصول للموارد الشحيحة لدينا، وحتّى من التنبّه للمخاطر عبر تبادل المعلومات، وهو ما ساهم في التقدّم الحضاريّ. لدافع التعاطف وهي سمة فرعية عن التوافقية، يُركّز الّليبراليون على القِيَم العالَمية والتنوّع والتعاطف الأخلاقيّ مع الغرباء والأقلّيات.
بالإضافة لذلك، يبدو أنّ المُحافظين يُحقّقون نسبة أعلى على مقياس الانضباطية وتحديدًا على مقياس السمة الفرعية للانضباطية وهي النظام والترتيب  order، من هنا وكما يقول عالم النفس الاجتماعي الأمريكيّ جوناثان هايدت، غالبًا ما يُنشئ الّليبراليون الأفكار والشركات الجديدة (لأنّهم يُسجّلون نسب أعلى بمُعامل الانفتاح) ولكنّك إذا أردتَ أن تُحافظ على نجاح هذه الشركة، فغالبًا ستحتاج أن يُديرها أشخاص مُحافظين (لأنّهم يسجّلون نسب أعلى بسمة الانضباطية والاجتهاد).
بشكل عام يُسجّل كلا الاتّجاهين المُحافظ والليبراليّ نسب متقاربة من التوافقية لكنّ ما تُنبّه له عبر الدراسات أنّ الدوافع تختلف بين الطرفين لنسب التوافقية. بشكل عام ترتفع نسب التوافقية عند المحافظين نتيجة لدوافع الأدب والتأدّب، بينما ترتفع نسب التوافقية عند الّليبرالين نتيجة لدوافع العطف والتعاطف. ولو فرضنا أنّ شخصًا فظًّا قام بلمس غير مبرّر ومُزعِج أثناء حديث مع شخص ليبراليّ ومُحافظ، وتحمّلاه وتقبّلوا فعله بدون خلاف أو نزاع. فإنّ الفرق بين الطرفين يكمن في الدوافع، فالشخص ذو التوجّه الّليبرالي قد ت”عاطف” معه ومع سلوكه فيما احتمل الشخص ذو التوّجه المُحافظ، سلوك المُتحدّث المُزعج لدوافع “التأدّب” والأدب لأنّه لا يريد أن يؤذيه أو يزعجه.


 

الوظيفة والعَمَل

يبدو أنّ مقولة “الطيّبون يستغلّهم الآخرون” تجد مصداقًا لها في الأبحاث العِلمية والنتائج التي توصّلت لها دراسات السمات الخَمس الكبرى للشخصية. بشكل عام تُشير بعض الدراسات إلى أنّ الأشخاص الذي يُسجّلون نسبة عالية بمقياس التوافقية غالبًا ما يحظون برواتب أقلّ من نظرائهم. وكما سبق الذكر إلى أنّ الإناث بشكلٍ عام يُسجّلون نِسَب أعلى بمقياس التوافقية، فبالإضافة إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المُضّطهِدَة للمرأة عبر التاريخ، فإنّ سِمَة التوافقية تلعب دورًا مُهمًّا في قبول النساء لرواتب ومكافآت أقلّ من نظرائهن. ولكنّ الفروقات تظهر بشكل أوضح على مستوى الذكور بين البشخص التوافقي والأقل توافقية، إذ يحصل الرجل التوافقيّ على أموال أقلّ بكثير من زملائه. لأنّ المُؤسّسات تتوقّع من الرجل أن يُطالب بحقوقه التي يراها مُستحقّة ولذلك إن خجل الرجل التوافقيّ من المطالبة بحقوقه، فإنّ المسؤول أو المدير لن يُفكِّر في أن يتأوّل له خجله أو توافقيته، فهو سيفترض أنّ الرجال عمومًا يقفون مدافعين عن حقوقهم وأنفسهم.

Image

 

إجراء اختبار السِمَات الخَمس الكُبرى للشخصية

بإمكانك أن تُخصّص عشر دقائق من وقتك للقيام بأحد اختبارات الشخصية الإلكترونية والتي تُعطي مُؤشّر قريب للدقّة إلى حدّ ما، ولكن قبل القيام باختبار الشخصية، حاول أن تأخذ بعين الاعتبار الآتي:

  • حاول أن تأخذ وقتَك بالإجابة دون أن تستعجل.
  • أن تُجيب على الأسئلة بقدر من المصداقية حتى لو كانت الإجابة الحقيقية مُزعجة بالنسبة لَك.
  • أجِب بالوصف الذي ينطبق عليكَ بالواقع، لا بالوصف الذي تتمنّى أن يكون أو أن تصبح عليه.
  • من الأفضل أن تُجري الاختبار بحالتك الطبيعية، إذا كُنت قد سمعتَ خبرًا سيّئًا لتوّك، أو قد تعاركتَ منذ دقائق، فالأفضل أن تُؤجّله لوقتٍ لاحق.
  • للحصول على نتائج أكثر دقّة، حاول أن تقوم بالاختبار في مواعيد مختلفة على فترات متباعدة من الأشهر المتباعدة، وبأوقات وظروف مختلفة، وهناك نماذج أكثر تفصيلية ودقة من الاختبار، مقابل دفع مبلغ ماديّ تتيحه بعد المؤسّسات والمواقع.

قم بإجرائه على الرابط هُنا


المراجع
_____________
Larsen, Randy J., et al. Personality Psychology: Domains of Knowledge about Human Nature. McGraw-Hill Higher Education, 2017.
Rathus, Spencer A. Human Sexuality in a World of Diversity. Pearson Canada, 2016.
Gray, Peter B. Evolution and Human Sexual Behavior. HARVARD UNIVERSITY PRESS, 2013.
Matsumoto, David Ricky., and Linda P. Juang. Culture and Psychology. Cengage Learning, 2017.
Burton, Lorelle J., et al. Psychology. John Wiley and Sons Australia, Ltd, 2019.
Kalat, James W. Biological Psychology. Cengage, 2019.
Wood, Samuel E., et al. Mastering the World of Psychology. Pearson, 2018.
Myers, David G., and Jean M. Twenge. Social Psychology. McGraw-Hill, 2019.

تمّ نشر هذا المقال لأوّل مرة لدى منصّة الموقع على الرابط هُنا