العَيش في الأزمنة الصعبة: خيارات المُقاومة

BY: Administrator

الحياة حَرب؛ حربٌ مَع نَفسِك، وحَربٌ مَعَ ظُروفِك، وحَربٌ مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف!

  • فرانز كافكا

تبدو طبيعة الأزمة هذه المرّة مختلفة، وتكمن خطورتها في أنّ الضحيّة ليسَت خارجية، وفي أنّ التهديد لَم يَعد بعيدًا، وفي أنّ المُستهدَف هذه المرّة هو أنت ! أو على وجه الدقّة.. الذات التي تقرأ هذه الكلمات.
إنّك تحيا في عالَمٍ مَجنون، وتعرف جيدًا هذه المَرحَلة من عُمرِك، حين تجدُ نفسكَ عالِقًا وجوديًا، وترى بعينيك جيدًا كيف يتقدّمُ كلُّ الذين سَبَقتَهُم، بينما أنتَ الآن هُنا تقفُ مُنهَزِمًا، يَعبُرُكَ الجميع وتتأخّرُهُم. جوهر الّلعنة أنّك حين تَعي.. تتوقّف، لقد صِرتَ عالِقًا في الفَرَاغ، لا تستطيع العَودَة من حيثُ جئتَ، ولا تستطيع العبور. الجنون الخارجيّ للعالَم يصير مشكلَتُكَ الذاتيّة، أنتَ الذي كُنتَ تُصدّرُ الاستقرار، صِرتَ الآن تستوردُ الأزَمَات، إلى الداخل حيثُ تُقيم، هكذا يتسلّل الجنون إلى ذهنك، فتصيرُ مَذعورًا وخائفًا، وبشكلٍ أكثرَ دقّة، فأنتَ مُصابٌ بـ هَلَعٍ وُجوديّ.
هذه مسألة مُهمّة ابتداءً، حين تُصاب بالهَلَع الوُجوديّ فأهمّ ما يجب عليكَ فعله هو أن لا تفقدَ عقلَك، إذ أنّ عُبورك لهذه المرحلة يتحدّد بمقدار تماسكك الداخليّ وتشبّثك بنفسك. لا يجب أن تفقد عقلَك، وهنا تأتي تمتَمَتُكَ لذاتك بأنّك قادرٌ على العبور، لأنّ نوائب الدهر في أكثرها أقربُ لعاصفةٍ وجدانية، تُهدّد تماسكك الداخليّ، وأفضل طريقة لكي تنجو منها، هي أن تُلملِمَ تَبعثُرَكَ وأن تُسيطر على اتّزانكَ الداخليّ، وأن تدعها تَمُرّ بهدوء.
أمّا بعدَ أن تنجو من ذات العاصفة الوجودية، فعلَيكَ أن تَعبُرَ منطقة الخطر، وبحسب الضوء الأزرق، فإنّ أفضل طريقة لكيّ تَعبُرَ منطقةً خَطِرة، هي أن تكون أنتَ أيضًا مَصدَرَ خَطَرٍ وتهديد، وبدلَ أن تكونَ فريسةً مذعورَةً، عليكَ أن تصيرَ صيّادًا خَطِرًا، أي أن تنتقل بذاتِكَ من مرحلة التقزّم الوجوديّ إلى مرحلة الندّية الوجوديّة، أي أن تصيرَ نِدًّا للأزَمَات. ولفعل هذا تحتاج أمرَين اثنين، أن تعي طبيعة المشكلة، وأن تتسلّح بالأدوات الّلازمة للمقاومة.
لقد راكمَ العالَمُ أَزَماتِه شيئًا فشيئًا، وصرتَ ضحيّةَ معركةٍ لَم تخترها، وصار لزامًا عليكَ أن تُقاتِل لإنقاذِ نفسكَ مِن واقعٍ مأزوم. فقد قطّع الذين سبقونا الأواصرَ الحميمية المُمكنة مع الوجود، وصارت علاقتنا مع الوجود علاقةَ بَعيدٍ غريب يشوبه التوتّر والذُعر والريبة. لقد صرنا نرصد الوجود من خلف الشاشات، وسحق الأوائلُ ما كان يمنح الوجودَ مَعناه. وبدأ السعيّ المُمنهج لتفكيك الإنسان ففقدت الذاتُ قداستها، وأما الذهن فقد تمّ إرباكه بكثرة المعلومات، وأما الهُويّة فمصيرها النسيان. وحين تَنسى، تفقد الجذور، وتجدُكَ خفيفًا لا تتمسّك بشيء، وسلبيًا لا تُقاتل لشيء، وبلا مَوقِف.. تميلُ مع كلّ ريحٍ، بلا هُويّة وبلا استقرار. هكذا صار اللاانتماء عقيدة، وتأليه الذات فضيلة. زُيِّف الجَمَال لغاياتٍ وظيفية، فَشَاع المُزيّف. ودُنِّس المُقدّس لغايات العقلنة، فما عاد بالإمكان استمداد أيُّ مَعنىً مُتعالٍ للوجود. وذُمّ الالتزام لأهداف التأقلم، فما عاد هناكَ أيّ جدوى للحديث عن المبادئ. وفقدنا الحِكمة لدواعي السُرعة، فصارَت التّفاهة فضيلةَ مَن لا فضيلةَ له.
وحينما تصيرُ الذاتُ.. مُستهدَفة، تصيرُ المُقاومة.. واجبًا. وحينما يشيع التشوّه، تصير الاستقامة عملًا ثوريًا، وحينما يُهيمن المُزيّف، تصيرُ الحقيقة شكلًا من أشكال التمرّد. هكذا نتساءَل.. ما هي سُبُل المقاومة، وبماذا نتسلّح، وكيف نُواجِه هذا الوَجود وقابل الأيام وكيف ننقذ أنفسنا من التشوّه والتأقلم مع واقعٍ مُشوّه.. لكي لا نصيرَ ذواتًا هشّة، ولا نُفوسًا مَذعورة، ولا أجسادًا مسعورة.
أنطلق في هذا المقال من مُقدِّمة ضمنية تدّعي ضرورة المقاومة، إذ بحسب هنري لابوريت، فإنّ الإنسان في مواجهةِ مَوقفٍ ما، ليس أمامه سِوى ثلاث خيارات:
1. أن يَهرُب
2. أن لا يفعل شيئًا
3. أن يُقاوِم
ولأنّه وكما يقول المُفكِّر الجزائريّ مالك بن نبيّ: إذا لَم تُقاوِم نظامًا، فستتكيّف معه.. ولأنّه ليسَ مُؤشرًا صحّيًا أن تتأقلَم مع واقعٍ مَريضٍ بالأساس. أذكر هُنا ممدوح عدوان، حين قال: في حياتنا شيء يُجنّن، وحين لا يُجنُّ أحد.. فهذا يعني أن أحاسيسنا مُتبلّدة وأن فجائعنا لا تهزُّنا، فالجنون عند بعضٍ منا دلالة صحيّة على شَعبٍ معافى. مع ضرورة التأكيد بأنّنا لا نُعوِّل على الجنون باعتباره استجابة لحظية على واقع شبه دائم، وفعل استثنائي على منظومة شبه مُستحكمة، من هنا، ولهذا كلّه ولغيره.. يبحث هذا المَقَال عن خيارات المقاومة الفرديّة طويلة المدى.
هذه خيارات المقاومة التي اعتقد، وهي على سبيل المثال لا الحصر، وكلّ سلاح لتمكين أحدها أو جميعها هو سلاحكَ القَيّم بالضرورة. ومقدار صمودك يتحدّد بمقدار تشبّثكَ بأسلحتِك.  على أن تَذكُرَ على الدوام، أنّ هذا أقلّ ما تدينُ به لنَفسِك، أن تُنقذها وأن تَحميَها وأن لا تسمح لأحدٍ أنّى كان.. أن يسلبكَ حُرّيتك، فيعبثُ بذاتِكَ وتصوّراتِك فتتشوّه أو تتماهى.


المعركة الأولى: حماية التصوّرات

كُلّ ذهن فَقدَ قُدرَتَه على تصميمِ نَفسِه، سيقوم غيرَهُ بتصميمه له !

  • قانون الهندسة العُليا، حسين البرغوثيّ.

يُربِك الإنسان، هذا الكَمّ الهائل من التدفّق المَعلوماتيّ الذي لا ينقطع، إنّك لا ترتاح حتّى إذا طلبتَ الراحة، فالمعلومات تنهالُ على الأذهان من كلّ حدبٍ وصَوب. وقد بدأت القصّةُ لديكَ كالآتي، كُنتَ تُؤمن ببضعة أمور، أمورٍ لَم تكن تُسائلها يومًا ما، نشأتَ عليها وآمنتَ بها وأحببتَها، ولأنّه لَم يكُن هنالِك أيّة ضرورة لتشاركها أو تناقشها، كانت على الدوام مستودَعكَ الآمن الذي تتكؤُ عليه. ثُمّ حَدَث أن أنشأت حِسابك على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وأخذت تُشاركُ أفكارَك التي بها آمنت، لكنّ هذا لا يطول كثيرًا، إذ الهجمات تتوالى، ونيران السخرية تحرق من تقديركَ لنفسِكَ شيئًا فشيئا، وتجدُ نفسكَ عرضةً لاستهزاءِ قومٍ لا تعرفهم ولا يعرفونك. فاتّهمتَ نفسَك الضعيفة وشكّكت بما منحكَ آمانك السابق، فصار ما كان مكينًا واهيًا، وما كان آمانًا مُقلِقًا.
لكن أخطر من الهجوم الذي تَعرِف، الهجوم الذي لا تعرف. إنّها التصوّرات الضمنية التي تكتسبها من غير وَعيٍ منكَ ولا إرادة، مدفوعًا بسطوة المَجموع، وضرورة الانتماء، والخَوف من أن تَفُوتُكَ المُشاركة، فتفتح حسابكَ وكأنّكَ تقول، هيّا يا آلهتي الجديدة، لتُملِ عليّ اليَومَ ما ينبغي أن أقوله، وعن أيّ شيءٍ يجب أن أتحدّث. إنّك تجدُ نَفسُكَ مُجيبًا عن سُؤالٍ لَم يطرحه عليكَ أحد، أو تُجيب سائلًا لم تأذن له بالسؤال، وهكذا تبدأُ الركضَ لأنّ الجميع يركض، خوفًا من أن يفوتُكَ ما يُطاردونَه، أو خوفًا من أن تسحقَك جموعُ الراكضين.
إنّك تُجيب دونَ أن تسألَ نفسكَ لماذا يجب أن أُجيب عن هذا السؤال على وجه التحديد. والأسوأ، أنّكَ ترى مَن حولَك يُجيبون باتّجاه، فتخشى أن تُجيب بغير هذا الاتّجاه، وهكذا تقعُ فريسةً للعنة الإقصاء. هذا الخوف العميق من أن يتمّ إبعادُك، هذه الهواجس المُرعبة عن الرفض والإقصاء، التي تجدُ لها تُربةً خصبة، في ذاتٍ لم تَبنِ تصوّراتها على أُسسٍ مَتينة، فُتجدُكَ تُشكِّكُ في نَفسِكَ، قبل أن تُسائِلَ الآخرين، وتتهمُّ نفسَكَ قبل أن تسمح لنفسك بأن ترى مزالِقَ الآخرين وزلّاتِهم.
وليس من المبالغة القَول، أنّ الأخطر من أن تُحدّد لنا إجاباتنا هو أن تُحدّد لنا أسئلَتُنا. لأنّ الأسئلة تحصرك في خانة معرفية مُحدّدة مُسبقًا، زاوية ضيّقة، ولا خسارة وجودية أكبر، من أن تقضي عُمرك تُجيب عن سؤال، لَم تطرحه على نفسِك، وإنّما طرحه عليك شخص ما غريب، فـ شغلك، وأنهكك وجعلكَ مُنهَمِكًا في معركةٍ لا تخصّك ولا تَعنيك. أمّا المُعلِّم هنري في الفيلم العظيم Detachment فإنّه يصرخُ في طُلابه بأنّ يحذروا من الهولوكوست المَعرفيّ، في هذا التلقين الضمنيّ والخفيّ الذي يُشكّل تصوراتنا عن أنفسنا، والوجود، فيقول:  علينا أن نحمي ذواتنا، علينا أن نحمي تصوراتنا.. وذلك بأن نتعلم كيف نقرأ !
هكذا يتحدّث حسين عن خطورة الذهن الذي لا يُشكِّل نفسه، إنّه يُسمّي هذا بقانون الهندسة العُليا: ذلكَ الذي لا يُشكّل تصوراته، سيشكلها له الآخرون. وهو الأمر نفسه الذي قاله المَسيري في إحدى محاضراته حينما قال: ما العمل إذا كان الآخر قد حدّد لنا أسئلتنا وشغلنا بها؟ ما العمل إذا كان الآخر يصكّ لي مصطلحاتي ومعرفتي؟ إذا لم نُحدّد أسئلتنا فسيُحدّدها لنا الآخرون، ومَن يُحدّد أسئلتك يُحدّد خيارات إجاباتك بالضرورة. فاحذر أن تتقزّم وأن تحشُرَ ذاتَك في خانة ضيّقة من الأسئلة وخانة أضيق من خيارات الإجابة.
فإذا فهمت هذا فأخشى ما يجب أن تخشاه، الجهل والتجهيل، الجهل القادم من الداخل، والتجهيل القادم من الخارج. والوسيلة الوحيدة للنجاة من ذلك، بالتعلّم، والتعلّم يتطلّب قدرًا من التواضع المعرفيّ لتقبُّل ما تجهل، وقدرًا من المساءلة الدائمة والنقد الدائم لما تعرف ولما تستقبل وتستدخل من معلومات. فتريّث قليلًا قبل الجزم فيما تعلم، وتأنّى قليلًا قبل الانصهار فيما يُقال. 
نقاط التركيز: أن لا تنفعل ولا تنجر وتندفع لفعل أو قول أيّ شيء كـ ردّ فعل على ما يأتيكَ من الخارِج. أن تطرح أسئلتك الخاصّة على نفسك، أن تُراجع نفسك إذا وجدتَ نفسكَ مُنهمكًا في شيءٍ لَم تُقرّره ابتداءً، أن تتدرّب على تحليل الخطاب، وتعرية الآيدولوجيا الكامنة في المقولات والظواهر.
كُتُب: الضوء الأزرق – حسين البرغوثيّ. النباهة والاستحمار – علي شريعتيّ.
أفلام: Detachment (2011)  The Pervert’s Guide to Ideology (2012).


المَعركة الثانية: تقدير الذات

لا تهرب، كُن شُجاعًا وحدّق بنفسِك !
إنّك ترتبك وتُصاب بالفزع حينما يُذكّركَ أحدٌ ما.. بضعفك.

  •  فلهلم رايش، خطاب إلى الرَجُل الصغير

تبدو مسألة تقدير الذات مسألة مركزية في الأزمنة الصّعبة لأنّ الإنسان حين يعجز عن تغيير واقع مأزوم يُحِكم قبضته على نطاقات التغيير، يتّجه الإنسان تلقائيًا لتوجيه الّلوم إلى نفسه، بوصفها نَفسًا عاجزة غير قادرة على التكيّف أو التماثل مع الواقع بشكله الحاليّ. من هنا تبدأ عمليات استدخال Internalization الأزمات، ويتعاظم شعور الذات بالذنب Guilt الذي سيرهقها لاحقًا ويصير هذا كلّه أحد أدوات التدمير الذاتيّ التي استعاذ منها النبيّ الكريم، حين قال: أعوذ بكَ من الهَمّ والحَزَن، والعجز والكسل، والجُبنِ والبُخل، وغلبة الدّين وقهر الرجال. إذ يبدو أنّ المُشترَك بين المصائب الثمان سابقة الذكر، هي أنّها عوامل تدمير ذاتي، أربعة منها خارجية المصدر، وأربعة أخرى داخلية المصدر، تعمل جميعها كعوامل طحن للذات وتدمير لتقدير الإنسان لنفسه.
وهذا يُذكّرنا بالوضع النيوليبراليّ للعالَم، هذه الأيدولوجيا التي تنطوي على رؤية مَفادها أنّ نجاح الإنسان أو فشله ما هو إلّا تعبير عن فشل الفرد في أن يتكيّف مع المخاطر الاقتصادية، وفشله في أن يكون رياديًا أو ابتكاريًا أو إبداعيًا ممّا يحرمه القدرة على اختراق السوق وبالتالي الرفاه النفسيّ والاجتماعيّ.
عقيدة صناعة المواطنين المُذنبين هذه، مسألة جوهرية لكي يتنصّل المسؤولون عن تأزيم العالَم بشكله الحالي اليوم، من باقي مسؤولياتهم تجاه تحسين الأوضاع المُحيطة، ومن ثمّ يعملون على تحويل العبء الأخلاقيّ المُلقَى على عاتقهم إلى عبء أخلاقيّ يشعر به الفرد تجاه نفسه بالّلوم والجلد والتوبيخ.
تدنّي تقدير الذات أمر يترافق مع ظروف نفسية واجتماعية أهمّها، أبرزها الاكتئاب والبطالة، هذه الظروف القاسية التي تُحوّل الذات الفاعلة إلى ذات مُرهَقة ودامية لا يسعها إلّا البُكاء ودوامات الفشل.

نعيش حقيقةً في وهم الحريّة، لسنا أحرارًا بما فيه الكفاية، لكنّه يُقال لنا أنّنا كذلك، وهذا ما يتسبّب لنا بالتّيه. فبعد الأزمة المالية جاء صندوق النقد الدولي مثل شيطان ليمنحنا المال وليسرق أرواحنا. نُعاني الآن من سجن تنافسيّ هائل، يدفعنا للاستسلام. الناس تعاني من الاكتئاب ومتلازمة الإرهاق Burnout، نسبة الانتحار في تزايد. وبالطبع، ليس بوسع الأفراد تحمّل كلّ هذه الضغوط، وعندما يفشل الفرد لا يتّهم المجتمع، بل يتّهم نفسه، يشعر بالخِزي وينتحر، لقد سبّبت الأزمة الاقتصادية صدمة اجتماعية وأدت لعجز الناس وشعورها بالشلَل.

  • الفيلسوف الألمانيّ-الكوريّ بيونغ شول هان (بتصرّف) له كتاب مجتمع الشفافية، ومجتمع الإرهاق أو التعب Burnout Society

تقدير الذات، يتطلّب أيضًا تعميق فهمنا لذواتنا، لكيّ لا يصير تقديرنا لأنفسنا وَهمًا أو زيفًا أو أضحوكة تُسلّينا وتُقنعنا في الوقت الذي لا نمسك به على شيء حقيقيّ، الأمر الذي من شأنه أن يجعل هزيمتك في المحطّات الحياتية الصعبة أمرًا مُؤكّدًا والأسوأ أنّ أثر الخسارة سيكون عظيمًا، لأنّ دفاعاتك لم تكن إلّا محض ادّعاءات، ولعلّ أبرز دروس يُمكن للمرء الاستفادة منها لغايات تعرية الذات من أوهامها، هو ما يُعلّمه لنا المُحلّل والطبيب النفسيّ النمساوي في كتابه شديد الّلهجة: خطاب إلى الرَجُل الصغير.
أمّا سُبُل المواجهة، فتتحدّد في مواجهة السستم الذي يعمل على تمكين نفسه وضخ خطابات الّلوم، وأفضل خطوة في هذا الاتّجاه هي أن تسعى على الدوام للتخّفف من حمولات السستم والاعتماد عليه، وواحدة من أشهر هذه المحاولات، والتي أخذها لأقصاها، ما قام به ديفيد هنري ثورو، وقد وثّق تجربته في كتابه “وَلدِن” أمّا كمحاولة تسييقية عربية فلعلّ كتاب طوني صغبيني “الهروب من السستم” هو الكتاب الأبرز والأهم هُنا.
وفيما يلي نَصّ مُقتَبَس من كتاب وَلدِن:

وواحدة من الاستراتيجيات الذكيّة للغاية على مستوى إجرائي لرفع تقدير الذات، وهو أمر قابل للتطبيق ويُمكِن الاستثمار فيه، وهو تحسين صورة جسدك وهيئته Your body image من خلال تغيير نمط حياتك، وممارسة الرياضة، فحين تحظى بجسد سليم وجذّاب، وتحظى بنمط حياتيّ صحّي، سترتفع مقاييس تقديرك لذاتك أضعافًا، ولأنّك في الّلحظات الصعبة، حين تخسر بعض الخسارات هنا وهُناك، سيكون لديكَ ما تفتخر به لنفسك، وكأنّك تقول لنفسك، صحيح أنّي خسرت هذه الجولة من الحياة، وصحيح أنّي هُزمت في هذه المعركة، لكنني ما زلت أقومُ لنفسي بعملٍ جيدٍ وناجح، وهو جسدي ونمط حياتي وما أبذله تجاه هذا كلّه. بالإضافة لإحاطة نفسك بوسَط اجتماعي (عائلة/أصدقاء) داعم يُؤمن بك، ويُقيّمك، وتتقبّل منهم ملاحظاتهم مهما بدت مُزعجة للوهلة الأولى. وقد كتبت هُنا حول بعض الخطوات المُفيدة جدًّا في هذا الشأن بصيغته العِلمية.
نقاط التركيز: أن تُعمّق فهمك لذاتك، أن تستطيع تحديد مَصادر المشاكل القادمة من الخارج، أن تُؤكد لنفسك أنّك ستنجو وستعبر، أن تُفكِّر بعقلية المُحارب الذي يخوض العشرات من الحروب، هذا يتضمّن أن تتقبّل بعض الخسارات وأن تقوم ببعض التضحيات وأن تقاتل بشدّة في معاركك الأكثر أهمّية.
كُتُب: الهروب من السستم – طوني صغبيني. وَلدِن – هنري ديفيد ثورو
أفلام: Into the Wild


المَعركة الثالثة: لُزوم المقاومة (الحياة اليومية كحقل ثوريّ)

لستَ مَهزومًا، ما دُمتَ تُقاوم

  •  مَهدي عامِل

هذه النطاق من المقاومة هو مدخل ممتاز لفهم أفكار علم الصراع Polemology الذي قد نظّر له غاستون بوثول، حينما حاول أن يفهم الحرب ويسحبها على الحقل الاجتماعيّ بوصفها شكل من أشكال التفاعل البشريّ. وقد استفاد من هذا هنري لوفيفر في كتابه “نقد الحياة اليومية” ومن ثمّ ميشال دو سارتو في كتابه “ابتكار الحياة اليومية” وهو ما يعنينا في هذا الجزء من المقال.
يرى ميشال دو سارتو أنّ المجتمع هو حقل صراع بين سستم مُهيمن، ومناوشات متشظّية هُنا وهُناك يقوم بها بعض الأفراد بين الحين والآخر كفعل مُقاوِم. يحدث هذا لأنّ الأفراد في المُجتَمع يَرونَ أنفُسَهم كصغار يواجهون نظام مُهيمن بأكمله، ينظرون إليه من الأسفل، لا يملكون تغييره ولا يملكون أن يُحدّدوا مصيرهم أو مُستقبلهم بأيديهم. هُنا يستخدم دو سارتو، ثُنائية “الاستراتيجيّة Strategy” و “التكتيكيّة Tactic” لوصف أشكال التفاعل، وأعلم أنّ الكلام هُنا قد يبدو أكثر تعقيدًا، لكنّي اقتربت من إنهاء الفكرة التي أريد إيصالها.
يمكن القول أنّ الاستراتيجيّة Strategy هي إرادة أو قوانين السُّلطة في وَسَط ما، إمّا على مستوى الدولة كسُلطة حُكم، أو على مستوى المُؤسّسات والشركات. الاستراتيجية هي توجهات عقلانية تُحدّدها السُّلطة العُليا لطريقة سير الأمور. لاحظ أنّ الاستراتيجية يجب أن تصدر عن جهة ما خاصّة واضحة المعالِم، لأنّها يجب أن تُبقي على مسافة بينها وبين أولئك الذين يتّبعون هذه الاستراتيجية، فهي ليست هُم وهُم ليسوا هي.
أمّا التكتيك Tactic فهي التدابير والإجراءات التي يقوم بها الأفراد كمحاولة للاحتجاج على الاستراتيجية المفروضة عليهم. لاحظ أنّ التكتيك آني ولحظيّ وعابر، على عكس الاستراتيجية المهيمنة وشبه الدائمة. ولاحظ أيضًا أن التكتيك فعل مُبعثَر ولا يُوجَد في مكان خاصّ، وإنّما هو محاولات متفرّقة من أفراد منفصلين، يعملون في الظلّ وفي الخفاء بعيدًا عن أعين الاستراتيجيّة، كمناوشات مع السُلطة. ومن أشكال التكتيك، الكتابة على الجدران، الإضراب، الاعتصام، تدمير ملكية تخصّ الاستراتيجية، أو السخرية والنقد والمظاهرات ونحوه.
أذكر هذا التفريق، لضرورة تكثيف المحاولات التكتيكية في مقاومة السستم، فحينما تشيع المحاولات التكتيكية أو تتحوّل إلى سلوك جَمعيّ مُنظّم أو غير مُنظّم، فإنّها تصير مصدر تهديد للسُلطة والاستراتيجية، الأمر الذي يُسهم إمّا بتجاوب السلطة أو تغيير سياساتها أو إظهار الصراع معها على السطح بشكل أكثر وضوحًا. وحسبُك من الأمثلة ما فعلته انتفاضة السكاكين بالاحتلال الإسرائيلي، أمّا على المستوى التقني فبإمكانك أن تُشاهد فيلميّ Snowden و Citizen Four كمحاولات تكتيكية لزعزعة السستم.
هذا يعني بالضرورة أنّ أي وَسَط مُؤسّسي داخل الدولة، هو حقل للصراع والإصلاح، فحينما يعمل الأفراد على محاربة الفساد أو على مقاومة السستم الذي يسلب ذوات العاملين به، فإنّ السستم سيجد نفسه مضطّرًا إلى التنازل أو الحوار أو الانسحاب، بدلًا من تركه يتمدّد كورم على حساب باقي فئات المجتمع.
وهذا يعني أنّ من واجبنا كأفراد شاهدين على مرحلة تاريخية ما، أن نقول قول الحقّ الذي يُزعِج السّلطة، وأن نُقاوم كلّ أشكال البربرية التي تقوم بها مُؤسّسات يُديرها أفراد يلبسون البدلات الراقية ويجتمعون في أفخم الفنادق، في مظهر يعكس مدى تمدّنه السطحيّ، أما بربرية الأفعال فهو ما يغفل عن رصده الفئات المُتضرّرة. وحسبك من هذا أن تقف على الدوام في صفّ المُضطهدين والمظلومين والضحايا والشهداء الذين ارتقوا في سوريا وفلسطين وباقي أنحاء العالَم، على أيدي الطُغاة والمُجرمين.
لزوم المقاومة بحدّ ذاته معركة، فأن تكونَ مُقاوِمًا يعني أن تُربّي في نفسك وغيرك الشجاعة. فالشجاعة على أقل تقدير هي فَن قهر الخَوف. وهذا يُذكّرنا بالمقولة التي يستشهد بها إدغار موران “ترتعد أيّها الجسد! لكنّك سترتعد أكثر حين ستعلَم إلى أين سأمضي بِك” فالمقاومة هي النزوع نحو القيام بأفعال خطيرة، لكنّها تحمل رمزية وحمولة عظيمة، وفاءً للقِيَم التي نُؤمِن بها، ووفاءً للثائرين والشهداء والأسرى الذي ضحّوا للدفاع عنها.
هذا يعني أنّك حين تشعر بالخوف أو اليأس، فإنّ مسؤوليتك هي أن لا تنشر هذا الضعف السلبيّ في الفضاء العام أو أن تنقله للآخرين خاصّة في الّلحظات الأكثر ثورية، ومثلها ما يجري في المظاهرات، إذ القاعدة التي تنطبق هي كلمات الأغنية: “إن خِفت ما تقولشِ، وإن قولت ما تخافشِ”.
نقاط التركيز: لزوم المقاومة وعدم الانهزام، أن تتدرّب على الشجاعة (إنّك تصيرُ شجاعًا حين تقوم بأفعالٍ شجاعة)، أن لا تنشر السلبية والعدمية والانهزام بين أقرانك بل على العكس تمامًا حتى لو كُنتَ تُؤمن عقلانيًا وداخليًا باستحالة التغيير، وأخيرًا أن تستثمر علاقاتك وتربيتك لأطفالك لتربية التفكير النقدي والشجاعة وعدم الخوف والحُرّية.
الكُتُب: القانون – فريدريك باستيا. خطاب إلى الإنسان الصغير – فيلهلم رايش.
الأفلام: V for Vendetta (2005), The Matrix (1999)


المعركة الرابعة: الحساسية للجمال

احذر عندَ مُقارعة الوُحوش ، أن تصيرَ واحداً منهم. لأنّكَ حين تُحدّق طويلًا في الهاوية، ستبدأ الهاوية بالتحديقِ بكَ أيضًا

  •  فريدريك نيتشه

 

هُنا يتساقط الكثير وجوديًا على طريق العُمُر. إنّهم يتصلّبون شيئًا فشيئًا كُلّما تقدّموا في العُمُر. يتصلّبون عن طريق انطفاء حساسيتهم الوجودية للجَمَال. وهذه المناورة القبيحة على الحاجة للشعور والإحساس ورصد الجَمَال الكَونيّ، ما هي إلّا ضرورة بقائية عندهم، لكيّ لا يتعطّلون، ولكيّ لا يتوقّفون كثيرًا، لأنّ من ضرورات الإنتاج السُرعة ومن ضرورات السُرعة أن لا تتوقّف.
أذكر هُنا رولو ماي، المُعالج النفسيّ الوجوديّ حين قال في إحدى حواراته: إنّنا حينَ نُحجَب عن الدهشة، وحين نفقد قدرتنا على تحسّس الجمال، وتقدير الغموض، فإنّنا سنبدأ بالمُعاناة على المستوى الصحّي والنفسيّ. هكذا يجيء تحذير نيتشه لنا بأنّ الإنسان حين تَطُولُ مُقارعَتَه للوحوش ومُحاربَته لها، فإنّه سينتهي به المطاف وقد نسي ذاته الأولى، وصار وَحشًا آخرًا مثلَ الذي كان يُقارعها.
لا يجب أن تُهوِّن من قُوّة الجَمَال، لأنّ للجَمَال هذه القدرة العجيبة على انتشالِكَ من حُطَامِك الوجوديّ، ولأنّك حين تتحسّس الجَمَال، أو حين تمتلك القدرة على مخاطبة الجَمَال، فأنتَ تُصافِح الوجود من يَدِه الأكثر عُمقًا وكُمونًا. ولأنّ قدرتك على تكثيف الجَمَال ما هي إلّا تعبيرٌ عن قدرة ذهنك على اختراق السَطح والسَطحيّ وقابليتك الذاتية على سبر أغوار المَعنى الكامن خلف البَدهيّ.
نقاط التركيز: أن لا تفقد الدهشة، أن لا يبتلعكَ الاعتياد، أن تُكثّف الّلحظات الجميلة وتتحسّها، فتتوقّف قليلًا لتشعر بالامتنان لجَمَال الَجمعَة العائلية التي أنتَ بها (أذكر هُنا كريستوفر لاش حين قال: العائلة، هي النّعيم في عَالَمٍ لا يَرحَم)، أو تتوقّف قليلًا لتنظر في السماء واقفًا ومُنسجمًا وغيرَ منهمك بجهازِك. أن تستشعر العُمق في لَمسِ مَن تُحبّ، أن ترتعش للنحيب الذي في المُوسيقى، أن يتملّكك الحنين الكامن في الفَنّ. وأن تتعلّم أن تشعر مثلما تتعلّم أن تُفكِّر.
الكُتُب: قوّة الفرح – فريدريك لونوار. مفارقات السعادة – لوك فيري
الأفلام: Scent of a Woman (1992)


المعركة الخامسة: الاستقامة ولزوم الفضيلة (مقاومة فخّ العَدَمية)

الشجاعة، أن نَصمِد أمام كلّ محاولة لخيانة أفكارنا

  •  إدغار موران

إنّ النتيجة الطبيعية في ظلِّ واقعٍ مأزوم هي أن تتشوّه ابتداءً، إذ إنّه ليسَ أمرًا عظيمًا أو مُميّزًا أن تكونَ عَدَميًا أو لا أُباليًا أو أن تخضع لسياسات التشويه، فتنهزم أو تنتحر أو تقضي حياتك خلف قضبان العَدمية والعبثية. هذه نتيجة طبيعية، أمّا قيمة الحُرّية، فهي أن تستطيع أن تكون فعل استثنائي حُرّ لا يخضع للحتميات التاريخيّة أو البيولوجيّة، مثل أن تكون شجاعًا في لحظة تستدعي الخَوف، أو أن تكون مُستقيمًا في بيئة تستدعي التشوّه. هكذا إذًا تصير الاستقامة عَملًا ثوريًا، كتعبير عن أقصى درجات الحُرّية، لأنّ كُلّ ما يُحيط بِك يُملي عليكَ أن تسير في هذا الاتّجاه.
لعدم الاستقامة والتشوّه غاية تطوّرية بالطبع، فالإنسان حين يكون مُستقيمًا أو مُتمسّكًا بعدد من القِيَم الأخلاقية، فلا شكّ أن هذا يحرمه العديد من الفُرَص، ويفرض عليه كُلَف مَصيرية. والعكس تمامًا، فبمقدار تخفّفك من القِيَم، تصير حركتك أكثر سهولة وتصير قدرتك على التأقلم والتكيّف أعلى وأسرع. وما أقصده من كلامي هذا، أنّ الانحراف والتشوّه هو فعل سهل بالنسبة للظروف المُحيطة، وما هي إلّا بضاعة رخيصة بالأساس يستطيع الجميع الوصول إليها، أمّا الفعل الأصعب والأكثر حُرّية هو أن تُلزِم نفسك بقيمة أخلاقية ما وتتحمّل كامل تبعاتها الأخلاقية وكُلَفها والخسارات العَمَلية المُترتّبة عليها.
هكذا يصيرُ عارًا عليكَ أن تصيرَ عَدَميًا أو أن تنتحر منهزمًا حين تعيش كإنسان في الشرق الأوسط، في ظلّ كلّ هذه المعارك والقضايا من حولك التي تستحقّ أن تجد مَن يُدافع عنها ومَن يحملها على عاتقه وأن يسعى لإصلاحها، لأنّك لستَ كائنًا سويسريًا يفيضُ بتَرَف الوجود، أو يفيض مَلَلًا من رفاه وجوده.
وحين نُؤمن بفضيلة ما مثل العدل والحُرّية، على سبيل المثال، يصيرُ لِزامًا علينا أن لا نتخذ مواقف مُحايدة في المحكّات الأخلاقية. لأنّه وكما يقول المُفكِّر البرازيليّ باولو فريري، حين نُقرّر أن نرفع أيدينا عن صراع بين [مَن لا حولَ لَهُم ولا قُوّة] وبينَ [مَن يملكون القُوّة]  فإنّنا بذلك لا نكون حياديين، بل نكون قد انحزنا إلى الفريق الأقوى بالضرورة، لأنّه صراع غير عادل في أساسه.
نقاط التركيز: أن لا تعبأ بمن يُسخّف بالتزام القِيَم، لأنّ العالَم العدمي بطبعه يُسَتَفَزّ من أولئك الذين يؤمنون بشيءٍ ما، يستفزّهم لأنّه يذكّرهم بأنفسهم.
الكُتُب: الإنسان من أجل ذاته – إريك فروم. بحث الإنسان عن نفسه – رولو ماي.
الأفلام:  (1995) Braveheart


المعركة السادسة: السعي للغَير أو الآخر كمسؤوليتي الشخصية

عندما نعيش لذواتنا.. تبدو الحياة قصيرة ضئيلة، تنتهي بانتهاء عمرنا المحدود.
أما عندما نعيش لغيرنا.. فإّن الحياة تبدو طويلة عميقة.

  •  سيّد قطب، أفراح الروح

يبدو الخَلَاص الفرديّ حَلّ مُناسب أمام جميع ما تفرضه الظروف المَعيشية بشكلها الحاليّ. إنّنا حين نُلزِم أنفسنا بمسؤوليتنا عن غيرنا، نشعر بشيء من التورّط، في مقابل ضرورة التخّفف الذي يفرضه علينا عصرنا لغايات السرعة والوصول بحسب الفلسفة البرغماتية للعَيش.
لكنّ هذا النزوع نحو الفردانية ما هو إلّا لعنة أخرى، إنّنا نشعر بغُربة حقيقية، قد لا نعرف سببها العميق، لكننا نشعر وبكامل المصداقية بأنّه هُناك فجوة خاطئة وحنين مجهول أمام كائن تراكمت فيه وفي جيناته عبر التاريخ حمولات جَمَاعية وجَمعية، في التواجد داخل الجماعة، ولهذا فهو يُعيد إنتاج هذه الطقوس بأشكال أكثر عصرية، تتمثّل في حفلات الغناء الجماعية، وفي التشجيع الرياضيّ الجماعيّ، كشكل أكثر حداثة من التجمهرات الأصيلة التي كان يقوم بها الأجداد في الماضي تلبيةً لنزوعاتنا الاجتماعية ككائنات هي حتى من وجهة نظر تطوريّة تُحسَب على سُلالات يتمركز نظامها المعيشي على الجماعات والقبائل Tribal Constructed. وانظر في هذا الكتاب الجميل The Social Leap.
هذا مَدخَل جيّد لكي نفهم أنّ سلوكيات التضحية Altruism هي الشكل الأكثر تعبيرًا عن قدراتنا على تسامي ذواتنا، وهو ما دفع بعجلة التمدين والحضارة الإنسانية قبل أن نتحوّل إلى الحضارة التقنية والمعلوماتية بصيغتها الجافّة والإجرائية.
هذا يعني أنّ شكل المقاومة الآخر هُنا، هو أن تسعى على الدوام لأن تدعم مَن حولَك بكُلّ ما تستطيع وخاصّة الدعم النفسيّ والاجتماعيّ لرفع تقديرهم لذواتهم ولتحفيزهم لأن يَسعوا لتمكين أنفسهم للصمود في المراحل الصعبة. هذا ما يجعل كلّ إنصات للآخر واستماع له ولمشاكله بمثابة جلسة علاجية مجانية تُسعف بها مَن حولك ممّن تُحبّهم وتُقدِّر وجودهم، إذ بعض الأزمات لا يتطلّب منك حلّها سوى أن تكون موجودًا، وأن تُنصِت وأن تطمئن على مَن تُحبّ.
أكتب هذا وأنا استحضر النظرية الشخصية للانتحار Interpersonal theory of suicide التي صاغها توماس جوينر، والذي ذكر أنّ أحد أهمّ الأركان الرئيسية للانتحار، هي أن لا يشعر الفرد بأنّه عبء أو زائد عن الحاجة أو غير مُنتمي لوسط ما يُقدّره ويهتمّ لوجوده. ولأنّ الوجود يُمكن تخفيفة بابتسامة أو بيد تربت على كتفنا مواسية، وهنا أستحضر حديث النبيّ الكريم، لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاكَ بوَجهٍ طَلِق.
نقاط التركيز: أن تسعى لمساعدة غيرك، أن تُنصت وتستمع لهم، أن تقف إلى جانبهم في الأزمات، أن تُؤكّد لهم أنّ هُناك مَن يُؤمن بهم حقًّا، وأن تقوم ما تقوم به من سلوكيات الإيثار والهدايا والعزائم والنشاطات الخارجية.
كُتُب: فَن الإصغاء – إريك فروم. أفراح الروح – سيد قطب.
أفلام: Dead Poets Society (1989), The Intouchables (2011)


المعركة السابعة: تربية الأمل

ولا تيأسوا من رَوح الله، إنّه لا ييأسُ من رَوحِ الله.. إلّا القوم الكافرون

  •  القرآن الكريم، سورة يوسف (87)

في كتابه الجميل “تربية القلب في مواجهة الّليبرالية الجديدة” يُقدِّم الفيلسوف البرازيليّ باولو فريري مُرافعة عظيمة عن ضرورة التمسّك بالأمل، لأنّ المَعرَكة طويلة وقد لا نُمتّع ناظرنا بثمارها الفورية، ولا أجد هنا سوى أن آخذ كلامه هنا كما هو، حين يقول:
والأمل في التحرّر، لا يعني التحرّر الآن وعلى الفور، فلا بُدّ أن نُناضل من أجل الحُرّية في إطار الظروف التاريخية المُواتية، فإذا لَم تتهيّأ الظروف، فعلينا أن نُواصل العمل مُتسلّحين بالأمل من أجل الحصول على مطالبنا. فالتحرّر إمكانية وليس قدرًا أو مصيرًا أو عَبَثًا.
ولهذا السبب، فإنّ أكثر النّاس استسلامًا للواقع، وأقلّهم قُدرة على الحلم والأمل، يصبحون أقل صلابة وقُدرة على مواجهة التحدّيات، كُلّما أصبح الحاضر أكثر ظلامًا، وكُلّما أخذت شمس المُستقبل في المَغيب. ويتوارى أمل المقهورين، كُلّما نَعم القاهرون بالأمن والسلام.
هذا كُلّه ينقُلُنَا إلى قيمة الصّبر، هذه القيمة المركزية جدًّا في مسألة الإيمان، والتي يتوقّف عليها مصير المؤمنين (ولمّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين). فعدم التحلّي بالصبر وفقدان الأمل خيانة وجدانية لذواتنا وللآخرين وحسبُك من هذا التحوّل الخطير الذي ظهر على حمزة نمرة في أغنيته “داري يا قلبي” التي وقعت في فخّ اليأس واللامبالاة بدلًا من استكمال المسار الفنّي باتّجاه تعظيم الأمل وتكثيف الصمود. وأنصح هُنا بكُتُب عظيمة لطالما أسعفت في الظروف الصعبة، أذكر منها: التنوير في إسقاط التدبير، الحكم العطائية، الفرج بعد الشدّة، عدّة الصابرين.
نقاط التركيز: أن تتمسّك بالأمل مهما بدا الواقع مخالفًا لذلك، إن كان لا بُدّ من أن يفقد أحدٌ ما الأمل، فليكن المجرمون والمُستبدّون كلّ أولئك الذين تسبّبوا بقهر الناس ومصائرهم.
الكُتُب: الفرج بعد الشدة – ابن أبي الدُنيا. تربية الأمل – باولو فرايري.
الأفلام: A Twelve Year Night (2018), Good Will Hunting (1997)


علامة الكُفر: الضجر كما يقول نجيب محفوظ
والمرءُ لا تهزمه الخسارات وإنّما فقدان الأمل
وما زال الإنسان بخيرٍ: ما ساءه كلّ ظُلم.. وما استوقفه كلّ جَمَال