معركة الذاكرة: صراع على هُويّة المَكان

BY: Administrator

صورة المرأة التي تُعانق شجرة الزيتون، صورة مركزية في فهم القضية الفلسطينية، فيها دلالة الجذور والأرض والتشبّث بالوطن

وفي ظل خطاب متصاعد لأنسنة إسرائيل، وطمس الهُوية، ومساواة أطراف النزاع ببعضهم (على اعتبار أنّ قضية فلسطين تنازع بين طرفين وليس سرقة وطن واحتلال) ستكون دلالات الذاكرة والجذور مهمة للغاية

المعركة القادمة ستكون معركة ذاكرة ثقافية، تسطيح للأحداث على مُستوى “الآن” والتاريخ المُعاصر، تنسية وتحقير للماضي والإرث والأجداد، مَن ينسى أوّلًا سيخسر كلّ شيء

مشكلة الذاكرة والنسيان مشكلة خطيرة بجدّ، خاصة في ظل عصر معلوماتي كثيف ومُرهِق للأجيال القادمة.

– كثرة الأحداث وتسارعها يعني تشوّش المشهد
– تشوّش المشهد يعني إرهاق الذهن
– إرهاق الذهن يؤول بعد فترة للتنازل عن المُفكَّر فيه أو تبسيطه أو اختزاله

مشكلة تدمير الماضي، أنّه يُفقد الإنسان دافعه للتغيير وقدرته على الثورة

يصف باومان ذلك في الخوف السائل بقوله:

حين يخضع الماضي لتدمير مُمنهج..
يجري اختزال الأفراد إلى مُجرّد سلسلة من التجارب اللحظية
بما يُجرِّد المُستقبل بأسره من اليقين، ومن أي توقّع عقلانيّ
وهو ما يَحرِم الفرد من الأمل في المستقبل
وهذا الأمل هو شرط القدرة على تغيير الأوضاع أو الثورة عليها

في كتابه “كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة” يبدأ بول كونرتون الفصل الأول بالحديث عن النضال الفلسطينيّ، عن كون الاحتلال يمس الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، ثُمّ يقول:

يُعطينا مصير الأشجار، صورة مُختصرة ومُكثّفة.. لكارثة اقتلاعهم من وطنهم

ويذهب فريدريك جيمسون إلى أنّ الأنظمة الاجتماعية المُعاصرة تفقد قدرتها التدريجية في الحفاظ على ماضيها

ويذهب إريك هوبزباوم إلى أنّ [تدمير الماضي] وهو تدمير للروابط التي تربط الإنسان المُعاصر بتجربة أجداده والأجيال السابقة، هي الظاهرة الأكثر غرابة وإخافة في القرن الأخير


هُناك ارتباط وثيق بين الذاكرة والمكان
شرط الذاكرة = المكان
قد تنسى متى حدث شيء ما دون أن تنسى أين حدث
(ولو نسيت المكان ستختلق مكان ليجري فيه تصوّر الأحداث…)

يجب أن تحدث الذاكرة في سياق مكاني ما..
حتى أنّ الذاكرة قد تختلق مكان ما، لتذكّر حدث ما
واللامكان في أذهاننا.. هو مكان في نهاية المطاف
(ولذا قد تختلق الذاكرة فضاء/فراغ أبيض أو أسود بديلًا عن اللامكان، لكي يكون بالإمكان تصوّر الأحداث)

ويُحدّثنا حسين البرغوثيّ عن [المكان المُنقرِض] إنّه جُغرافيا فقدت هُويّتها، تمامًا كما يفعل الاحتلال ببناء المُستوطنات، يخلق جُغرافيا جديدة ليطمس ويُغطّي المكان السابق، مكان يتصل بالذهن بذاكرة وهُويّة

فـ اللامكان، هو المكان، وقد نأى في الروح عن تاريخه
الفرق بين المكان واللامكان بسيط…
اللامكان هو: مكان مُجرّد من تاريخه
والأمر كما يقوله لنا ميشيل فوكو: لا يُمكننا فهم الأمكنة باستقلال عن ممارسة الناس فيها !

ولذا يتساءل درويش: يا أرض لم أسألك: هل رحل المكانُ من المكان؟
فرحيل المكان عن نفسه، هو رحيل ممارسة الناس عنه، رحيل الذاكرة، والتاريخ

على سبيل المثال:
تراصف السطوح في رام الله، نصّ لا يُمكن قراءته إلّا في سياق استعماريّ
فالاستعمار حضور جُغرافيّ يُغيِّر طوبوغرافيا المكان
والمستوطنات، مُسطّحات ممنوعة مبدئيًا على السُكان الأصليين

الزحف الاستيطاني: مكان زاحف، مصادرة للأراضي، إغلاق لها، طوق أمني، سياسي وعسكريّ ولُغويّ، يُهدّد الوجود الجمعيّ الفلسطينيّ بالاقتلاع والإزاحة

اقتلاع الذات عبر طمس الهُوية وتشويه الذاكرة وتعزيز النسيان،

يُذكّرنا بمقولة لعزمي بشارة لمّا سأله أحد أعضاء الكونغرس الأمريكيّ في محاضرة في الفندق الوطنيّ في القدس الشرقية عن “الحُكم الذاتيّ” للفلسطينيين، حينما قال:
يجب أن تكون لنا ذات أوّلًا، لكي نتحدّث بعد ذلك عن حُكمها !

يُمكن اختزال الاحتلال الجغرافي، إلى مُشكلة ديموغرافية، كما في خطاب اليمين الإسرائيلي:

هُناك سُكّان فلسطينيون، وهذه هي المُشكلة !

هكذا ينكمش المكان إلى حدود الجسد أن تُبعِد الفلسطينيين بالتهجير أو الإبادة أو التدمير، يعني انتصار الاحتلال الجُغرافيّ !

لذلك حريّ بنا وبجهودنا أن تتركّز في تمكين الذاكرة، وصياغتها بوضوح، وربط الأجيال القادمة بإرث الأجداد وذاكرتهم، قصصهم، أراضيهم، مواقعها، أشجارهم، عاداتهم، أحقّيتهم، تهجيرهم معركة الذاكرة، معركة وجود أن تنسى يعني أن تُهزَم..

وطني ليس حقيبة
وأنا لستُ مُسافِر
– درويش