الخيبة والخذلان والفِرَار من الإحساس

BY: Administrator

يَصِف كريستوفر لاش ظاهرة تُصاحِب سلوك الإنسان المعاصر: “الفِرار من الإحساسFlight from feeling

وهي ظاهرة ناتجة عن الخوف من الخيبات ووسيلة لحماية الذات من الانهيار والافتراس.

وينتج عنها على مُستوى الذات والعلاقات:

– لامبالاة
– علاقات حُرّة بدون إلزامات
– العيش وحيدًا وبشكل عَمَليّ وتنامي الاستقلال العاطفي

ونتيجة لهذا برأيه، تتنامى الإباحية والعلاقات الوظيفية functional والعابرة.. وبهذا يكون الإنسان قد أقام حواجز ضد العواطف مع الآخر (فهو مجرد طرف يحقّق منافعي وأحقق حاجاته، ولا ينبغي أن يترتّب عليها أي إلزامات أو ارتباط عاطفيّ) وبذلك يجنّب الإنسان نفسه أي توتّرات عاطفية.

وهكذا يعيش المجتمع في قبو من اللامبالاة، في مأمن من الأهواء الخاصة ورغبات الآخرين. حارسًا لذاته وحاميًا لها.

وتتأسّس علاقات الجنس الوظيفيّ المُفرَغة من أي مكنون عاطفيّ. ويشيع أنماط الجنس مع الغرباء، والجِنس لليلة واحدة والتي تبدو فكرة أكثر استساغة ورواجًا لأفراد لا يريدون أن يتورّطوا بأيّ التزامات.

ويُصبح من المُحرِج أن يعرِض الإنسان مشاعره أو أن يبكي أو يُعلن بقوّة عن احتراقه، أو أن يكشف داخله بسرعة. فإنّ هذا من شأنه أن يجعله أكثر عُرضة للافتراس وهذا يشعره بالقلق واللاأمان. فيُصبح الإنسان أكثر تكتّمًا فيما يتعلّق بعواطفه.

وللمدن الحديثة علاقة بهذا الشيء. فكلّما أتاحت المُدن إمكانيات الالتقاء أكثر، كُلّما شعر الأفراد بالوحدة. إذ حينما يستحيل الوصول إلى الآخر أو يَصعُب لقاؤه، سنختبر بصدق مقدار تمسّكنا به.

فقد كان العُشّاق في الماضي يقطعون المسافات بأملٍ طفيف في إمكانية لقائه الآخر والحديث معه لدقيقة أو اثنتين قبل أن يُعثَر عليهم. وهو قد يجدها وقد لا يجدها، وقد يتاح له التواصل معها أو قد يتاح له تلمّس جدارِ منزل عشيقته، يتلمّس أثرًا أو يشتمُّ رائحة تُطيل أمله وتُحييه من جديد.

(عارف كان أجمل شيء في حياتي، إيه يا حياتي؟… توعدني وأطير، قبل المواعيد، للفرحة أعيد قبل العيد، وألقاك يا حبيبي سابقني هناك، والحُبّ في إيد والدُنيا في إيد..)

أمّا حينما يكون الوصول إلى الآخرين جميعًا على قدر مسافة واحدة من السهولة والوقت والجُهد، فهذا يعني أنّنا لَن نجد مصداقًا لشعورنا بالإعجاب، فنحنُ لن نبذلَ أي جهدٍ لاختباره.

وهكذا وكلّما أصبحت العلاقات حُرّة أكثر ومتحرّرة من الإكراهات القديمة، كلّما أصبح من النادر أن يشتبِك الإنسان بعلاقة مكثّفة وعميقة.

وهذا ما تصنعه علاقات تتأسّس بالعوالم الافتراضية بكبسة زر أو لمسة أصبع. بلمسة أضيف شخص وبلمسة أقصيه تمامًا من حياتي block.

وهذا يعني أنّنا نعتاد أن نستسهل إنهاء العلاقات عند أول مشكلة، دون أن نخبر توترات الحب وأن نُجاهد لنبقَ من مَن نُحبّ، دون أن نسعى لتحسين العلاقة بالطرق الصعبة.

فالآخرون بضاعة في سوق مُجتَمَع، أنا فيه المُشتري، والآخر إمّا أن يناسبني ويأتي على مقاسي أو أتخلّى عنه بسهولة. وبالتالي نفقد أي خبرة ذاتية على إعادة تقييم ذواتنا. فببساطة نحن لا نراجع ذواتنا، وإنما نعزو فشل العلاقة بأنّ الآخر لم يكن ملائمًا بما فيه الكفاية.

إذ على الآخر أن يتكيّف وِفقَ مِزاجي واهتماماتي وسلوكياتي، أمّا أن فاعتقد أنّي جيّد بما فيه الكفاية، وإذا لم يُناسبه ما أكون، فليذهب ويبحث عن غيري، وأنا سأفعل هذا بالمُقابل.

علاقات هشّة، وعابرة وسريعة تمامًا مثل وجبات سريعة وفيديوهات قصيرة، وتغريدات مختصرة، ومُكالمات سريعة، وحُب عابِر. لا وقت لدينا لنخبر بكثافة ولا وقت لدينا لنخوض بشجاعة.

ويرتبط هذا كُلّه بتجفيف الخطاب وعقلنة التواصل. فكلّ عبارة يجب أن تكون واضحة ومُحدّدة ودقيقة، وبالخطاب العقلانيّ المجرّد نضمن أنّ حديثنا سيُبقي مسافة بين ذواتنا والموضوع الذي نتحدثه، وبالتالي نحمي أنفسنا بالحديث عمّا هو بعيد عنّا وخارج ذواتنا…

لـقد وصف حسين البرغوثيّ ذلك ذات مرّة بتعبير بليغ:

لقد أخبرتني بأّن الله بنى سورًا حول قلبها، فلم تَعُدّ تشعر بأحد !

ويُمكِن أن نفهم هذا التجفيف وتفريغ الخطاب من العواطف وظهوره بمظهر صلب وعقلنته قدر الإمكان كميكانيزم دفاع نفسيّ. كمحاولة لبناء جدار مكين، كي نحمي هشاشة الداخل الزجاجية.

ويماثله تعبير كنفاني: إنّ شراستكَ كلّها إنّما هي لإخفاء قلبٍ هَش..

أخيرًا، يُمكن أن نُقارب هذه التحوّلات بمُقاربات عديدة، منها مقاربة القفص الحديديّ عند فيبر على سبيل المثال على مستوى الفرد والمؤسسات والدولة.

ويستحضرني فيلم equals حيث عالَم ديستوبيّ يعيش فيه الناس دون أن يشعروا، إذ الشعور مرض يترتّب عليه كل شرور ابن آدم الأخرى، وفي هذا العالَم يتم تشخيص أعراض الشعور وبداياته فإذا تفشّى يُقتَل صاحبه.

وفي فيلم equilibrium، وبفكرة مماثلة، حيث الشعور والفَن والقراءة من محُرّمات المُجتمع الشموليّ المُستَقبَلي، يُوشي أحد المسؤولين بشريكه، حينما يعلَم أنّه قد سرق أحد الأدلّة (كتاب) ليقرأه بالسرّ، فيُخبِر شُرطة الشعور:

اعتقلوا هذا المجرم، إنّه يَشعُر، لقد بدأ يَشعُر !