إكراه الذات: عن الحُبّ والطبع والتطبّع

BY: Administrator

من الدراسات المُثيرة حول أثر التغيّرات الاجتماعية على خلايا المُخ، ما يورده الدكتور رسل فيرنالد Fernald -عالِم الأعصاب في جامعة ستانفورد- في بحثه على سمك البلطيّ الأفريقيّ

تخلص الدراسة للآتي: يتأثّر دماغ ذَكَر السَمَك، بالتفاعل الاجتماعيّ، تأثّرًا يُغيِّر من حجم دماغه ولونه وقدرته على التكاثر.


فإذا ما صادف الذكر المُسيطر ذكر آخر أكبر منه وأشد عدوانية، فإنّ الخلايا العصبية للذكر المهزوم سرعان ما تتقلّص، وتنكمش مراكزه التكاثرية، ممّا يُقلِّل من قدرته على الإنجاب


إنّ المُلاحظة المثيرة للاهتمام هي أنّ التغييرات السلوكية التي تحدث بشكل متكرر وكثيف تُفضي إلى تغيّرات دماغية وعضوية مساندة لها.

فقد وُجد أنّ الخلايا العضوية تتمتّع بخاصية “الطواعية” أو “اللدونة” Plasticity والتي تتأثّر بالوسط المُحيط (نفسيًا ومُجتمعيًا) وسلوكيًا (بعاداتنا) وفِكريًا (تصوّراتنا عن أنفسنا وغيرنا والوجود)

بإمكاننا أن نؤثِّر بأجسامنا بتغيير عاداتنا وتصرّفاتنا وتجاربنا شيئًا فشيئًا. من خلال خاصية اللدونة العصبية Neuroplasticity والتي تُشير إلى أنّ الدماغ يتغيّر بشكل مستمر بفعل تجاربنا ويقوم بصنع وتوليد خلايا عصبية جديدة (إلى حدّ ما) أو وصلات عصبية مُغايرة لتلك التي وُجدت فينا بالأصل

هذا يعني بالطبع أنّنا مسؤولين عن أنفسنا بدرجة كبيرة ودقيقة للغاية تصل إلى حدّ تغيير جُزء كبير من مُحدّداتنا البيولوجية وقابلياتنا العضوية، متى ما أردنا أن نتغيّر، ومتى ما ألزمنا أنفسنا بإجراءات جديدة وكثيفة باتجاه ما نطمح

لكن أريد أن أسحب ما سبق لمدى أبعد، مستفيدًا ببُعده التطبيقيّ، أو مُستعينًا به كنموذج تفسيريّ لبعض المقولات.

وهذه المُلاحظات كالآتي:
– مسألة تغيير الذات
– ربط الملاحظة العلمية السابقة بمفهوميّ الطبع والتطبّع
– تصوّراتنا حول الحُب

تطويع النفس والنهوض بها وتغييرها قرار مُرهق ومُنهك ومُزعِج غالبًا، وهذا يرجع لعدة أسباب: أوّلًا: لأنّه قرار ذاتيّ يُلزم الإنسان به نفسه (بإمكانك ببساطة أن تُقرّر أن لا تتغيّر وتعاود النوم وممارسة حياتك بنفس الطريقة السابقة Nah, not today)

ثانيًا: لأنّ فيه إجبار للذات وإكراه لها على بذل الجهد، والنفس كأي شيء في الوجود، تُفضِّل أن تسلك المسار الأقل جُهد وممانعة Least resistance way (هذا ينطبق على خواص معظم الموجودات، من إلكترونات، المجرى الذي تسلكه المياه…)

وثالثًا: لأنّ التغيير فيه انتقال لنقطة غير معلومة، أو غير مضمونة، ومُخاطرة من نوع ما. أن تبقى حيث أنت هو نقطة ارتكازية آمنة (كومفورت زون) لمعظم البشر. (مثلًا يرضى الإنسان بوضعه القائم مهما كان سيئًا وذليلًا، لأنّه يطمئن لما يعرف وما اعتاد عليه ويخشى ما يجهل ولو كان أفضل)

وهذا يعني بالضرورة أن لا نستهين بأثر الوسط المُحيط في تحديد سعادتنا وقدراتنا وبالتالي:
– أن نكون شجعان بما فيه الكفاية لنغادر الوسط الذي يُحطّمنا واعتدناه
– أن نُغيِّر من شبكة علاقاتنا المثبّطة والسلبية
– أن ننتهج نمط حياة أكثر فاعلية

وأمّا الملاحظة الثانية فتلك المُتعلِّقة بالطبع والتطبّع، وهو ما يُعيدنا للدراسة، وتطبيقها: الحِلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر ومعناه أنّك متى ما أردت أن تكتسب صفة، فعليك أن تحمل نفسك عليها، ولو تظاهرت ومثّلت في بادئ الأمر، وكذا الخشوع والندم (ابكِ على خطيئتك)

فإذا كان تكرار السلوك يدفع خلايانا العصبية لأن تتغيّر بنفس الاتجاه، فبهذا نفهم لما كان: [ما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب، حتى يُكتَب عند الله كذّابًا] فهو يكذب مرارًا وتكرارًا حتى تطبّع به، وأصبح جُزءًا لا يتجزّا من تكوينه وشخصيته (وما تشير له الدراسة: في تكوينه العقليّ أيضًا)

أمّا المُلاحظة الأخيرة فهي أن نجمع المُلاحظات السابقة ونوظّفها على طريقة عالم النفس الألمانيّ إريك فروم. إنّ الحُب ليس شيء يحدث بالصدفة، قد يحدث الإعجاب بالصدفة ولكن الإعجاب لا يدوم، وسيتكسّر الإعجاب بلا حُب، عند أوّل مُنعطَف

لا يحدث الحُب صدفة، وإن كان الحُب يأتي دون أن نبذل مجهود لأجله، فهذا يعني أنّنا غير مسؤولين عنه وبالتالي نقضي حياتنا مُفسدين لأنفسنا ولمن حولنا ظانّين أنّ الحُبّ لم يأتِ بعد

إنّ الحُب، عند فروم، يُمكن فهمه بما سبق، إنّه قيمة عُليا تتحقّق ببذل الجُهد والتكرار والتكلّف أن تُحب يعني أن تصبر، وأن تُحب يعني أن تبذل، وأن تُحبّ يعني أن تُضحّي وأن تتعب فالحُب ليس شيئًا مُستقلّا بذاته، إنّه مجموع ما نبذله من أجل الآخر ولكي نكون مع الآخر رغم كلّ ما يمنع ذلك

أن تُحبّ يعني أن تتنازل
وأن تُضحّي أن تُجبر نفسك على ما تكره،
وأن تُغيّر في نفسك ما تكره وكنتَ تتقاعص عن أن تُغيّره
فكلّ حُب لا يدفعك لأن تكون شخصًا أفضل:
عِبء مُزعِج، وحِمل ثقيل، ومَسير مُرهِق،
وهو ما يصفه إريك فروم بالحُب السلبيّ، حُبّ لا يخلق فيك أي دافع

وحينما تُحبّ تتشكّل لغتكم الخاصّة،
[لغة خاصّة] يُسيء فهمها الآخرون
فما يراه الآخرون تنازلًا، ترونه تضحية
وما يراه الآخرون تبذيرًا، ترونه عطاءً وهُم لا يفهمون
ولن يفهموا كيف يفهمون؟ وهُم ليسوا نحن (أنا وأنت..)

أن تُحبّ الآخر، يعني أن تبقى، وتُكره نفسك على البقاء في الوقت الذي تدفعك فيه كل المُعطيات للرحيل من أجلكِ، ولأجلكِ، ومعكِ، ومنكِ، وإليكِ…

هذا قرارك أنت، أن تبقى حيث أنت، أو أن تفعل شيء حقيقيّ لتكون شخصًا أفضل
قال وأنتَ مسؤول ومُسائل عمّا فعلت لنفسك وعمّا تفعله بنفسك.
والله تعالى يقول: فوربّك لنسألنّهم أجمعين… عمّا كانوا يعملون !