بين الوحدة القاتلة والتجارب العاطفية المُؤذية
المنفى
هل يُمكن أن نُحبّ دون أن نتألّم؟

العُزلة أمر جيّد
لكنّك تحتاج لشخصٍ ما، كي تُخبره بأنّ العُزلة جيّدة!

- بلزاك

إذا تفكّرت قليلًا في نفسك والأصدقاء من حولك، ستجد أنّه ما من كائنٍ أكثر بؤسًا وإثارة للحزن مثل ذاك الكائن المُسمّى إنسانًا.

إنّنا من جهة ما.. نخشى البقاء وحيدين، فالوحدة موحشة، ومُجرّد تخيّلنا لفترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من عمرنا ونحن لوحدنا دون شريك نحبّه ويحبّنا، نهتمّ به ويعتني بنا، هذه الفكرة تُثير في وجدانك الرّعب والأسى، أن تعود كل يوم من وظيفتك، تبحث عن مفتاح المنزل، فتفتح لتجد الغُرَف الباردة والمُظلمة دون أن تجد شخصًا يُحبُّك تخبره عن الأوغاد الذين قابلتهم في الخارج قبل أن تعود لهذا المكان الدافئ.

لكنّنا من جهة أخرى، نعرف تمامًا أنّ الآخرين معظمهم أو أكثرهم غير جديرين بالثقة، فأن تُسلّم قلبك، هذا العضو الرقيق، بكامل إرادتك وطَوعًا لشخصٍ آخر، وأن يرى داخلك ويكتشف مخاوفك وهواجسك وأحلامك، كلّ هذه التجربة مرعبة أيضًا، فمَن يملك الوصول لهذا كلّه، يملك ممكنات إيذائك والتلاعب بك.

وأذكر أنّ الروائي الإنجليزي نيل جايمان بإحدى رواياته وصف تجربة الحبّ ببراعة، حين قال:

هَل وقعتَ يومًا في الحُب؟

فظيع، أليسَ كذلك!

إنّه يَجعَلُكَ تَشعُر بأنّك مُعرّض للهُجوم

وأنّك ضعيف تَقِف بلا أيّة أسلحة!

إنّه يشقُّ صَدرَك ويفتح أبواب قلبِك

وهذا يعني: أنّ بإمكان الشَخص الذي فتحتَ له قلبَك، أن يخترقَك من الداخل ويعبَث بِك

هل يمكن أن نُحبّ دون أن نتعرّض للأذى؟

هل يمكن أن نعيش مع أهلنا وأصحابنا وأقرب الأشخاص إلينا، دون أن نتعرّض للأذى أو الخيبة ودون أن نشعر بالألم؟

يبدو أنّ هذا غير ممكن على الإطلاق، على الأقل في هذا العالَم!

آرثر شوبنهاور، الفيلسوف الألماني، صاغ ذات مرّة معضلة العيش بالقُرب من الآخرين، عبر استعارة صارت لاحقًا شهيرة للغاية في التحليل النفسي، تُسمّى:

مُعضلة القنفذ The Hedgehog's Dilemma

"إنّ القنافذ حين تواجه طقسًا باردًا في أيّام الشتاء، ولكي تتجنّب التجمّد والموت من شدّة البرد، فإنّها تسارع بالاقتراب من بعضها البعض، كي تستدفئ كُلّ منها بحرارة القُنفذ المُجاور. لكنّ القنافذ حين تبدأ بالاقتراب من بعضها البعض، فإنّها تلقائيًا تبدأ بوخز وإيذاء بعضها البعض بفعل الأشواك المُحيطة بأجسادها. ولكي يتوقّف الألم الناجم عن الوخز، فإنّ القناقذ تعود أدراجها وتأخذ بالابتعاد عن بعضها مرّة أخرى، لكنّها حين تفعل، سرعان ما تبدأ بالارتعاش مرّةً أخرى من شدّة البرد، الأمر الذي يدفعها لمعاودة الكرّة، والاقتراب من بعضها البعض بحثًا عن الدفء، وهكذا تتكرّر (محاولات الابتعاد والاقتراب) حتّى تتمكّن القنافذ من العثور على مسافة معقولة من الدفء مع الألم المُحتَمَل الناجم عن الوخز"

يُطلق شوبنهاور على الحالة النهائية للقنافذ عبارة "المسافة الآمنة Safe Distance" وهي المسافة التي يكون عندها لسعة البرد الخارجيّ مقبولة، وتُحتَمَل عندها الآلام الناتجة عن وخز الأشواك الذي يُسبّبه الاقتراب من القنافذ الأخرى.

كلّ حبّ هو تجربة مُؤلمة بالضرورة، حتّى تجربة الولادة وحبّ الأم لأطفالها مليء بالألم الذي يتسبّب به قرب الأطفال ورعايتهم الدائمة، والأسى الذي يتسبّب به الشوق إليهم واشتياقهم عند ابتعادهم واستقلالهم! فنحنُ نريد من أبنائنا أن يستقلّوا وأن يعتمدوا على أنفسهم ولكن يُؤلمنا أن يكبروا ويقضوا أيّامهم بعيدين عنّا.

وَما كانَ لِلأَحزانِ لَولاكِ.. مَسلَكٌ
إِلى القَلبِ، لَكِنَّ الهَوى لِلبِلى جِسرُ

وأبو فراس الحمداني في الأبيات السابقة، حاله حال العشّاق الذين أدركوا أنّ الحبّ لا يكون إلّا إذا كان مؤلمًا، وهو يعترف: لولا هذا الحُبّ، ما عَرَفت الأحزان طريقها إلى قلبه، لكنّه أحبّها، وحُبُّه لها هو المسؤول عمّا هو فيه، فالحب جسر للبلَى والهلاك.

أبلغ ما قيل في العلاقات الاجتماعية بأنّه: ذكاء المسافات!

وإن كان من شيء ينبغي أن نتعلّمه هنا، فهو أنّه لا طائل من البحث عن حبّ ملائكي مُطلق، ولن يكون بالإمكان أن نخوض هذه الرحلة لوحدنا، وإنّما الأجدى أن نُحيط أنفسنا بالأشخاص الذي يستحقّون أن نتألّم لأجلهم، وأن نحترف معهم رقصة القنافذ، أي أن نراكم على تجاربنا السابقة معهم، فنقترب ونبتعد حتّى نتعرّف على "المسافة الآمنة" التي تُلائم كلّ روح تجاورنا، مسافة دافئة، تجعل القُرب مُحتَمَلًا، وتَقينا من بَرد الوَحدة ولسعات الخارج.

أشعر أنّي مَدين لمُشتركي القائمة البريدية بشكلٍ خاصّ
ولذلك سأقوم بتخصيص بعض الكتابات من علم النفس وعلم الاجتماع بشكل دوريّ
(سأحاول أن تكون أسبوعية قدر الإمكان)
وسيكون محتوىً خاصّ.. لا أنشره في مكانٍ آخر
وبعبارات أكثر مرونة وأقلّ طولًا قدر المُستطاع

خالص المودّة والامتنان

- محمود

ملحوظة: هذه هي الرسالة والتجربة الأولى للنشرة البريدية، وقد تواجه بعض المشكلات أو تتّجه الرسالة إلى ملف Spam في بريدك الإلكتروني، وسيكون من الجيّد تصنيف بريد المدوّنة بوصفه بريد آمن، كي تصلك الرسائل القادمة بسلاسة

Unsubscribe   |   Manage your subscription   |   View online