ذوات متشظّية: عن تجربة الزواج في العالَم الحديث

BY: Mahmoud


الإحساس الحادّ بفردانيتك: عن مطاردة السعادة والخوف من تآكل الذات


إنّ السعي لتحقيق السعادة يتطلّب بالضرورة قدرًا من المنافسة مع الآخرين!
ولذلك فإنّ السعي لتحقيق السعادة وحدها دون اعتبار أيّ شيء آخر..
تلقائيًا يَضُرُّ بالروابط الاجتماعية للنّاس ويزيد من شعورهم بالوَحدة والانفصال عن الآخرين

– عالِمة الاجتماع: إيفا إيلوز

في المسلسل البديع (مشاهد من زواجٍ ما) وفي المشهد الافتتاحي له، يبدأ المسلسل بينما يجلس الزوجان (ميرا وجوناثان) على الأريكة في منزلهما، أمامهما باحثة في مرحلة الدكتوراة تحضّر لأطروحتها حول الهويّة، ومفهوم الذات والأدوار الجندرية، وتطرح عليهما السؤال التالي: كيف تُعرّف نفسك؟

بثقة ووضوح يُعرّف جوناثان نفسه بأنّه (بروفيسور أكاديمي، وأب..) دون أن يذكر أنّه (زوج لـ ميرا) فهو أب بطبيعة الحال، وهذا التعريف يبتلع ما دونه من تقسيمات، تفريعات هي في الغالب تحوّل الآخر لمُجرّد مُسنّنة ضئيلة في آلة ضخمة تُدعى الأسرة والإنجاب. على النقيض تمامًا، تبدأ ميرا التعريف بنفسها بوصفها (زوجة.. A wife). كان من المفترض أن تكون هذه الجلسة مُجرّد نقاش “لغايات بحثية” لكنّها سرعان ما تتحوّل لمحادثة يملؤها التوتّر والإرباك. وبإمكان أي مُشاهِد أن يلحظ جوناثان وهو لا ينفكّ يتدّخل عند كلّ إجابة تُجيبها ميرا.. كي يُضيف شيئًا وكي يُرشدها للإجابة الأفضل وكي يُصحّح لها أمرًا، بهذا المَعنى تشعر ميرا نفسها كما لو أنّها مُحاصَرة، أو في الحقيقة كما لو أنّها تتلاشى وتختفي أمام الباحثة بسبب هيمنة زوجها، الأكثر حضورًا وثقةً وصاحب السُلطة المعرفية التي تُحدّد طبيعة هذه العلاقة وحارسها الذي يسمح بتدّفق المعلومات التي يرى بأنّها “الأصحّ” لوصف هذه الزيجة والكيفية التي ينبغي أن تُعبّر فيها ميرا عن نفسها.

كان لدى ميرا وجوناثان طفلة حتّى لحظة إجراء هذه المقابلة، وفي الّليلة نفسها عندما يريدان أن يَخلُدا للنّوم، تُباغت ميرا زوجها بمعلومة ليست بعاديّة: “أنا حامل!” وتبدأ بالضحك قليلًا، ليتفاجأ جوناثان بهذا الخبر ولكنّه لا يبتسم كما فعلت ميرا دون أن يُظهر استياءً واضحًا في المُقابل. ثمّة موقف مركّب هنا يعرفه كل زوجين ينتميان للطبقة الوُسطى (ما لم يكونا لا-إنجابيَين) هناك من جهة الرغبة بالإنجاب، بالمزيد من الأطفال، وهناك من جهةٍ أخرى الذعر والرّعب الذي يترافق مع مُجرّد تخيّل هذه الفكرة، فكُلّ إنجاب، كلّ طفل جديد يعني سحق مساحة كبيرة من الذات وطموحاتها وتقويض استقرار الحياة اليومية وروتينها.

من المهم هنا أن ننتبه إلى ما أصطلح على تسميته بـ ” نَزَق الروتين ” وهي الحالة التي تصف تقديس الأفراد الطموحين -خاصّة في مرحلة الشباب- لحياتهم اليومية وروتينها (قهوة الصباح، التمرّن الرياضي، مشاهدة مُسلسل ما على نيتفلكس في المساء، وعبادة السفر والتجوال حول العالَم كتعبير عن حرّية الذات وانفلاتها الجغرافي..) بطبيعة الحال ينتمي “نزق الروتين” لتقاليد الطبقة الوُسطى لأنّه يحتاج إلى تخطيط وجُهد ووصاية دائمة. أمّا الروتين بالنسبة للطبقات الثرّية والعليا فهو تحصيل حاصل لفائض المال والرّفاه المادي، إذ ما لا يُحَلّ بالمال.. يُحلّ بالمزيد من المال، وبهذا المعنى تستطيع الطبقات الثرّية حراسة روتينها بدون أدنى جُهد أو تخطيط، فالخدم وسائقو السيّارات والمُدرّب الرياضي الشخصي والطعام الصحّي الباهظ، كلّه مُعدّ مُسبَقًا ولا حاجة لترتيبه، ولا معنى للقلق من أيّة مفاجآت محتملة. عمليًا، يتمّ الإتيان بخَدَم من الطبقات الفقيرة أو المسحوقة، كي يُضحّوا هُم بأوقاتهم وسعراتهم الحرارية من أجل أن يضمنوا استقرار وسلامة النمط اليومي للأثرياء ومتطلّباتهم. أمّا الطبقات الفقيرة فلا روتين سوى الكدح والمرض والعرَق أو الضجر المُوحِش الذي يسبّبه طول الحرمان.

في الزواج يحدث أن يُعاني كلّ فرد على حِدَة أحيانًا، معاناة خاصّة يصعب شرحها للطرف الآخر، ثمّة محدّدات بيولوجية تقف عائقًا أمام دقّة التعاطف، مثلًا لا يستطيع الرجل بأيّ حال من الأحوال فهم ما الذي يعنيه أن تكون المرأة حاملًا بطفل، من المؤكّد أنّ بإمكان الرجل أن يفهم أن زوجته الآن تمرّ بفترة الحمل، أو أنّها ستنجب له طفلًا، لكن ما الذي يعنيه هذا حقًّا بالنسبة للرجل؟ ثمّة تجارب غارقة في ذاتيتها، هي في الأساس تجربة ذاتية، كالألم والحمل، يمكن للمرء أن يفهم معنى هذا العجز الشعوريّ أو التعاطفي، إن تعرّض لظروف بائسة تجعله يرى وبشكلٍ يوميّ على مدار أشهر زوجته وهي تعاني من مرض السرطان على سبيل المثال، إنّها حالة يعرف فيها الرجل حدود تأثيره في وجدان زوجته وحدود قدرته على تقمّص معاناتها.

بهذا المعنى، ثمّة مشكلات يوقن الطرفان فيها أنّ لا مَخرَج ولا حلول، ولكن ما يبحث عنه الطَرَف الذي يعاني غالبًا هو الدّعم والاطمئنان، هذه ليست حلول للمواساة كما تبدو للوهلة الأولى، ولكنّها حلول جوهرية لا تقلّ فاعلية عن إيجاد حلّ للمشكلة نفسها. كانت ميرا تعرف جيدًا الإرباك الذي سيحصل حين تُخبر جوناثان عن الحمل، لكنّها كانت تُؤمّل بأنّ الطريقة الوحيدة للنجاة من هذا كلّه سيكون بعبارات الطمأنة والدّعم الشعوريّ المتواصل. على المستوى السيكولوجيّ يختلف اتّخاذ قرار إنجاب الطفل الأوّل عن إنجاب الطفل الثاني، في حالة الطفل الثاني أنتما تعرفان جيدًا طبيعة الفوضى التي تصحب مجيء كائن صغير يحتاجك على الدوام بكلّ براءة وحبّ، ولكنّه في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون إلّا على حساب وقتك وآمالك المهنية وطموحاتك الأكاديمية وخططك لتحقيق ذاتك، وإذا سحبنا هذه التعقيدات إلى نهايتها سنفهم كيف تقرّر بالنهاية وبغير كثير من الجِدال إجهاض الجنين في ظلّ جو مشحون بالكلام الذي لا يُقال.

لاحقًا، يحدث تحوّل دراماتيكي، حين تأتي ميرا ليلًا لتخبر زوجها أنّها “قد وقعت بحبّ شخصٍ آخر، وسأرحل غدًا للسفر معه، ولا أعرف تمامًا متى سأعود“. تُعطينا الطريقة التي تنقل بها ميرا الأخبار إلى زوجها ملمحًا عن شخصيتها، تحترف ميرا إلقاء القنابل أكثر ممّا تُجيد الاشتباك الممنهج. على المستوى السيكولوجيّ، تعتبر الخيانة الزوجية أحد الأحداث العاطفية الصادمة، التي تشبه في مستوياتها الشعورية شيئًا مماثلًا لتجربة الفقد أو الفجع الحاصل نتيجة موت أحد الأعزّاء، وتظهر الدراسات أنّ الخيانة قد تتحوّل لاحقًا لاضطراب ما بعد الصدمة ومزيج عام بين الاكتئاب والقلق ومحاولات إيذاء النّفس أو الانتحار بالإضافة لمشكلات مزمنة بانعدام الثقة والارتياب والتوجّس من أفعال النّاس. يُصاب جوناثان بصدمة فعلًا، لكنّها صدمة من النّوع التي تجعله عاجزًا عن الكلام، وليست من قبيل الخلاف الهائج أو إعصار الصراخ والتكسير والعنف. وحين تسأله ميرا عن شعوره في هذه الّلحظة، يُجيب جوناثان أنّه “لا يشعر بأيّ شيء” لتستثمر ميرا هذه الإجابة بقولها “لعلّ عدم شعورك بأي شيء له معنى أو دلالة” في إشارة منها على أنّ ما آلت إليه العلاقة من خيانة زوجية من طرفها، هي نتيجة طبيعية لزوج لم يشعر بأي شيء في لحظة الأصل فيها أن تكون جنونًا لا ينتهي.

بحسب الدرس السيكولوجيّ، تحدث الخيانة لأسباب عديدة، أبرزها توفّر الخيارات والبدائل مع شعور أحد الأزواج باستحقاقه لشريك أفضل أو أجمل أو أكثر جاذبية وكفاءة من شريكه الحالي. أحيانًا تحدث الخيانة نتيجة شعور الفرد بالتلاشي أو الموت الرمزي للذات، ومن ثمّ يكون اختبار الذات مع شخص جديد حدًّا حَرِجًا لدى أحد الأزواج كي يستعيد شعوره بالكفاءة أو الإحساس والتلذّذ الذي تورثه فكرة أن تكون ما زلت مرغوبًا للجنس الآخر. وأحيانًا تحدث الخيانة بفعل تضييق الخِناق أو شعور الذات بأنّها ترزح تحت الحصار في العلاقة الزوجية أمام طرف صارم وحازم وشديد التقييد، فتكون الخيانة بهذا المعنى إثبات لإمكانية الانفلات من الحصار وإثبات الاستطاعة وهذا يشمل كسر الرتابة والاندفاع الجامح نحو التجارب المثيرة والجديدة، بالإضافة إلى أسباب كثيرة أخرى تحتاج إلى مقال آخر وهذا كلّه يختلف بُنيويًا عن الأسباب النفسية العميقة وراء الخيانة الانتقامية. هذه مقدّمة ضرورية كي نعود للمشهد الافتتاحي للمسلسل، إذ يمكن للمُشاهد أن يستشعر ومنذ الدقائق الخمس الأولى، أنّ ميرا في هذه العلاقة تشعر على أقل تقدير أولًا بالاختفاء والتلاشي وثانيًا بالحصار والتضييق.

لكن ما الذي يحصل حين تُلقي ميرا بمقصلة الخيانة على العلاقة الزوجية الآمنة بالنسبة لجوناثان؟

في هذه الّلحظة تحديدًا يعيش جوناثان داخل رأسه أكثر ممّا يواجه شعوره مع ميرا، إنّ السؤال الأهم الذي يتفجّر في هذه الّلحظة بالنسبة لشخص ملتزم ومحافظ نسبيًا، هي: (هل هذا حقيقيّ؟) (لماذا يحصل لي هذا؟) أو (لم أتخيّل في حياتي كلّها أنّ شيئًا كهذا بإمكانه أن يحدث، ولِمَن؟ لي أنا!) هذه عبارات أساسية يردّدها من يختبرون التجربة القاسية للخيانة. المسألة هنا أنّ البشر -الجيّدون منهم تحديدًا- يعتقدون أنّك حين تقوم بالأمور الجيّدة، حين تكون إنسان جيّد، مُخلص في علاقتك وتهتمّ لأسرتك، فإنّ آخر ما يمكن أن يحدث هو مُعطّىً تدميريّ بهذا الحجم، خاصّة إن لم تكن تسبقه أيّة مقدّمات أو مشكلات سابقة، وخصوصًا إذا كانت ثلاثية الهدوء والرتابة وانتظام الحياة اليومية هي ما يُخيّم على الجو العامَ للمنزل طوال الوقت.

ميرا نفسها تلعب دورًا غارق بالسلبية بالنسبة للحظة المكاشفة تلك، فهي تصرّ طوال الوقت، عن أنّها “لا أرغب أبدًا بالحديث حول الموضوع” وأنّها لا تريد أن تناقش الموضوع ولا تفاصيله، ولن تجيب عن أيّ استفسار آخر، ويُعطينا امتناع ميرا العُصابي عن النقاش ملمحًا آخرًا عن شخصية لا تتحضّر مُسبَقًا لعواقب خياراتها وإنّما تفعل الأشياء، تفعلها فحسب، وهو ما ستؤكّده الحلقات القادمة بعد غياب عدّة سنين. أمّا جوناثان وبعد هدوء عام،  يُصرّ لاحقًا على الحديث حول الموضوع ومعرفة اسم الشخص الآخر “بولي”. لكن إن كنت تظنّ أن موقف ميرا سلبيّ جدًّا، فسيدهشك حين ترى مشهدًا بديعًا لا يتكرّر كثيرًا في السينما، حين يُصرّ جوناثان على توضيب حقيبة السفر لميرا، إصرارًا هستيريًا بحاجة لتحليل نفسي.

 

انتظرت ميرا حلول الصباح بفارغ الصبر، كانت ليلة بطيئة الكواكب استطال فيها الزمان بتعبير النّابغة الذبياني، بفعل الحوار الممتنع والعائق الصخري الموجود في المنزل خلقه “غير المحكيّ” الذي أصرّت عليه ميرا. بحسب المشهد وفي صبيحة اليوم التالي وبينما تأخذ ميرا بتوضيب أغراضها وملابسها، يدخل جوناثان يراقب ميرا وهي تُعاني في توضيب حقيبة السفر من كثرة الملابس والاحتياجات الشخصية، أمام هذا المشهد سنجد أنّ جوناثان يُبادر لمساعدة ميرا بإصرار وإلحاح، هنا تحديدًا يتجلّى مدى التعقيد النفسي حين تقاوم ميرا رافضةً مساعدته، بينما يستأسد جوناثان لإنفاذ مساعدته حدًّا يصل إلى بدايات اشتباكٍ جسديّ ذي طابعٍ عُنفيّ.

يُعطينا المشهد ملمحًا مهمًّا عن حالة الّلا-وعي الخاصّة بجوناثان، فهو في محاولته هذه كأنّه يقول لزوجته: أنا لا أعرف كيف أتصرّف حيال هذا الذي يحدث كلّه، لكنّي على الأقل أستطيع أن أوضّب حقيبة سفر بالشكل الصحيح. يحاول جوناثان استعادة كفاءته الذاتية التي سقطت في قاع عميق لا قاع له، بمجرّد إفصاح ميرا له عن خيانتها الزوجية، وهو معطى يهدم أي قيمة للكفاءة الذاتية للرجل، ليس من حيث فحولته الجنسية فحسب، ولكن من حيث كفاءته كذات أساسًا، بمعنى ما، تُسبّب الخيانة ألمًا على المستوى الأنطولوجيّ للذات، من حيث هي ذات مرئية، يمكن الاعتراف بها، أو يمكنها فرض وجودها على الآخرين، لأنّ الخيانة في أصلها تعبير عن التجاوز، أن أتجاوز وجودك كذات وكأنّك غير مرئي وغير موجود بالأساس ولو لثواني معدودة.

بهذا المعنى، فإنّ جوناثان كان يحاول استعادة إحساسه بذاته، عبر محاولته المثيرة للشفقة لأن يُثبت لنفسه ولو في نطاق ضيّق وضئيل وتافه، أنّه ما زال بإمكانه أن يقوم بشيء واحد فقط، شيء واحد على الأقل، بكفاءة وبالشكل الصحيح. إنّه كوجيتو شخص ينزف وجدانيًا (بالمعنى الديكارتي للعتبة الإدراكية التي يُمكنها أن تجعلنا قادرين على ممايزة الحقيقة من الوهم) كان جوناثان بحاجة لهذه الّلحظة كي يقول لنفسه ما زال هناك أمورًا يمكنك القيام بها، أنّ العالَم ما زال مفهومًا، وانظر ها أنتَ ذا بإمكانك أن تحلّ مشكلة ميرا مع الحقائب، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، هذا جُزء ضئيل قابل للتعقّل، قابل للفهم، جزء حقيقي، أمام كل هذا الجنون والّلامعقول الذي يحدث.

 


إغواء البدايات: عن زيف الجموح وهشاشة الشغف


هذه المسرّات العنيفة.. لها نهايات مُدمّرة

– وليام شكسبير، تاجر البُندقية

في الألبوم المعنون بـ (قسم الشعراء المُعذّبين) والذي نشرته المغنّية الشهيرة تايلور سويفت تحكي لنا أغنية Fortnight حكاية تدور أحداثها حول علاقة عاطفية مليئة بالشغف وهي على أيّة حال علاقة قصيرة المدّة لكنّها مشحونة بالمشاعر الجامحة والانفعالات المتضاربة. تبدأ الحكاية بما يوحي بأن التفاهمات بين العاشقَين تدور حول آمال لعلاقة طويلة الأمد أو ربّما أبديّة، فمشاعر الشغف والحبّ التي اختبرها العاشقان كانت هائلة تجتاح القلب وتسيطر عليه ومثالية توحي بالخلود والسرمدية. لاحقًا، يتضّح أنّ هذه العلاقة لم تدم إلّا لفترة قصيرة: “فورتنايت” (أسبوعان) وسرعان ما تصير هذه الّلحظات المعاشة والتي كان ينبغي لها أن تكون خالدة إلى مجرّد ومضات شعورية مؤلمة، سكاكين في الذاكرة، وتدفّقات شعورية كثيفة وحادّة يشوبها السخط والغضب تتحوّل مع مرور الوقت إلى مصدر ألَمٍ وخيبة أمل. هكذا تحديدًا تصير الذكريات كمطرقة قادمة من الماضي لهدم الحاضر، الأمر الذي يجعل ممكنات العيش في الواقع الجديد أمرًا عصيًّا، وهي النقطة الشهيرة بالنسبة لكثير من العشّاق حين يتحوّل الحبّ إلى فعل تدميري، تعبّر عنها تايلور سويفت بقولها:


I love you, it’s ruining my life
أحبّك.. وهذا يُدمّر حياتي!

هذه العلاقة ليست مُدمّرة لمجرّد كلّ هذا التعقيد والتناقض الشعوري، بل أيضًا بسبب تدّخل عناصر خارجية مثل زوجة عشيقها. عشيقها، الذي يقرّر بدوره ارتداء قناع رتيب ومحايد (مجرّد جار يعيش بالجوار يسقي الزرع ويقيم حفل شواء لعائلته بين الحين والآخر) وهذا التحوّل من (عاشق جامح) إلى (رجل أسرة تقليدي) يقتل القلب المُتعطش للجموح والمتلهّف للشغف والجائع للاهتمام. تؤدّي هذه التعريفات الجديدة للطرَفَين إلى جعل الوضعية الجديدة للعلاقة أمرًا لا يُحتمل، خاصّة إذا ما قورن الوضع الجديد بالمُخيّلة الرومانسية التي يُمليها العقل حول ما كان يمكن أن يكون. هكذا تتحول العلاقة من كونها أملًا للحياة إلى عبء يثقل القلب، خاصّة إذا ما أضفنا لها مشاعر الغيرة والحسد التي تسلّلت إلى العلاقة، مما يزيد من تعقيد العلاقة وقوّتها التدميرية. وتتجلّى هذه المشاعر عندما تصف كلمات الأغنية الّلقاءات العَرَضية مع الشخص الذي أحبّته، والذي أصبح الآن مجرّد جار أو هذه هو الدّور الذي يلعبه على الأقل، بالتوازي مع وجود زوجته في حياتهم اليومية كتذكير متواصل بتجوازها وتجاوز كلّ تلك الّلحظات الجامحة والمُنفلتة وكأنّها لم تكن وهو ما يدفعها لأن تعترف بشعور عدائي وحقود بقولها “زوجتك تسقي الأزهار، ممم.. كم أريد قتلها!”.. يعكس هذا الوصف تأثير الغيرة العميقة والحسرة التي ولّدتها هذه العلاقة غير المكتملة والقصّة المبتورة، وهي مشاعر لم تتولّد نتيجة فقدان الحب، بل أيضًا بسبب مشاهدتها لحياة هذا الشخص مستمرّة كما لو أنّ علاقتهما لم تحدث قط، إذ أنّ فكرة أن تكون “شخصًا قابلًا للتجاوز” فكرة مرعبة حين يدركها أيّ شخص تهدّد كينونته وكفاءته وتحطّم أساطيرك وأوهامك الشخصية في كونك ذات جديرة بالاهتمام، وإنسان غير قابل للتجاوز.

لِمَ لا نرتدي عباءة المختصّين في علم نفس العلاقات؟ ومن ثمّ نطرح السؤال الهامّ في هذا السياق، وهو : ما هو موقع الشغف والمشاعر الجامحة من نجاح العلاقات وديمومتها؟

من المفارقات الأساسية في علم نفس العلاقات، أنّ ما يجذبنا بالطرف المُقابل يختلف باختلاف غاياتنا من هذه العلاقة ومؤدّاها. فإن كنت تريد علاقة قصيرة المدى، علاقة عابرة ولا تخطّط للاستقرار أو للإنجاب، فستجد نفسك تلهث وراء كلّ خاصّية جسمانية مثيرة، كالطول والانجذاب الجنسي، وأحيانًا وتبعًا لتجارب الطفولة، سيُثير إعجابُكِ كفتاة، الشابّ المتهوّر والوغد وشديد التلاعب بالإناث من حوله، وستتحوّل هذه المعطيات التي في أصلها سامّة، إلى تبرير عقلاني يشدّكِ إليه. في المقابل، وحين يُريد الشخص الاستقرار والإنجاب وتأسيس حياة آمنة ومستقرّة فسينحاز تلقائيًا لعناصر ومحدّدات أخرى ليست معنوية فحسب كالّلطف والأخلاق والتدّين، بل تدخل هنا أيضًا اعتبارات تطوّرية قد يصير معها “الكرش” أو البطن المُمتلئ لدى الرجل، أكثر جاذبية من حزمة العضلات السداسية six pack في أسفل البطن. إذ البطن المُمتلئ في الّلاوعي لدى شريحة من الإناث، ما هو إلّا تعبير عن ملاءة مادية وكفاءة مالية لدى الرجل وقدرته على حصد الطعام وتوفير الموارد، وبالتالي ثمّة معنى نفسي عميق هنا يتمثّل بالشعور بالأمان.

لحسن الحظّ أنّ جانب الوقوع في العلاقات العاطفية واستمرار العلاقات وأسباب انفصالها، هي من أكثر النطاقات البحثية التي نجد فيها تراكم جيّد نسبيًا، من حيث الدراسات التجريبية والتتبّعية. الشغف في بداية العلاقة ليس مؤشّرًا لنجاح العلاقة واستمرارها. على العكس تمامًا، فإنّ الشعور بالأمان والاطمئنان في بداية العلاقة والارتياح للآخر بوصفه شخص آمن غير متلاعب وغير ماكر وغير جامح، هي جميعها مؤشّرات لعلاقة جيّدة على المدى الطويل. العلاقات التي تبدأ بالشغف والجموح والتجارب الجامحة wild تؤدّي إلى إعادة تعريف هذه العلاقة على المستوى العصبي والإدراكي لدى الإنسان، بوصفها علاقة خطرة، مليئة بالمُخاطرة، ولا تكون علاقة سعيدة ومُرضِية إلّا حين تكون جامحة وتثير في النفس الخوف والرهبة من التجربة (الأدرينالين) وكذلك حين تدفع الجسد لتحفيز (الدوبامين) المرتبط بالتلذّذ قصير المدى، الذي هو في أصله ترقّب وتأهّب بانتظار مكافأة قريبة ستحصل، قد تمثّلها ذروة التجربة الجنسية أو النشوة.

في هذا السياق، يقدّم عالم النفس التطوّري الشهير ديفيد باس في كتابه تطوّر الرغبة The Evolution of Desire منظورًا تطوّريًا حول طبيعة ما يجذب المرأة في الرّجل، مستندًا إلى دراساتٍ عالميّة عبّرت بوضوحٍ عن تفضيل النساء للرّجال ذوي المكانة الاجتماعية المرتفعة، القادرين على توفير الموارد والدّعم. وفقًا لهذه الطروحات، لا ينبع تفضيل الموارد الماديّة من فراغ، إنما لأن المرأة في تاريخنا التطوّري دفعت كُلفةً باهظة للحمل والإنجاب، ومن ثمّ احتاجت إلى شريكٍ يضيف الأمان والاستقرار. هكذا يتجلّى الانجذاب إلى سِماتٍ مثل العُمق النّفسي، والنّضج، والطموح، والاجتهاد في العمل، كونها دلائل عمليّة على احتمالية التزام الرجل واستعداده للاستثمار العاطفي والمعنوي والمادّي في العلاقة.

ويُشير ديفيد باس كذلك إلى أنّ الانجذاب لما هو بدنيّ وجسدي وجذّاب جنسيًا (بنية الجسم القوية، والتمتّع بصحّة جيّدة، وقوام V-shaped مثلًا) لا ينفصل عن حساباتنا التطوّرية في اختيار الشريك؛ فاللياقة البدنية والصحّة الظاهرة تومئ إلى قدرةٍ أكبر على توفير الحماية للزوجة والأبناء وضمان استمرارية التزويد بالموارد مع مرور الزمن. وعلى الرغم من أنّ التحوّلات الاجتماعية الحديثة أكسبت بعض النساء قدرةً أعلى على توفير الموارد لأنفسهنّ، إلّا أنّ دراسة باس وسواه تظهر أنّ تفضيل وجود موارد واستعداد الرجل للعطاء والاستثمار في العلاقة يظلّ عنصرًا جوهريًا لدى نسبة كبيرة من النساء، سواء في العلاقات القصيرة (إغواء البدايات) أو في الارتباطات الأطول أمدًا التي تقتضي استقرارًا أكبر. ففي نهاية المطاف، يظلّ ما يجذبنا في الآخر، وفقًا لمنهج التطوّر النفسي، مرتبطًا بمعايير الأمان وتجنّب المخاطر ورفع فرص النجاح والاستمرار، وإن كان في أحيانٍ كثيرة يكتسي أرديةً رومانسية ووجدانية عذبة.

الطبيب النفسي الأمريكي ستيفن بورجز والذي صاغ نظرية العصب الحائر Polyvagal Theory والتسلسل الطبيعي للتفاعلات الاجتماعية، يعتبر وبحسب دراساته أنّ أعلى مستوى للتواصل الاجتماعي هو التواصل الآمن، إنّها المرحلة التي يُلقي فيها كلا الطرفين أسلحتهما الدفاعية، ويتخّلصان من أسوارهما المنيعة، لأنّهم يعرفون أنّهم لا يحتاجونها في هذه العلاقة، ولن يحتاجوها. إنّها ثقة بأنّي أستطيع أن أكون آمن مع هذا الشخص وإن أخطأت، وإن أسأت خطأً، وإن بدوتُ ضعيفًا أو مُنهارًا أو تافهًا أو أحمقًا. فهو يُحبّني وهو شخص آمن، لن يهمّه إن كنت كذلك أم لا. وهذا التفاعل الاجتماعي أدعى لإفراز هرمون عظيم يُدعى (الأوكسيتوسين) Oxytocin وهو الهرمون المسؤول عن تعميق الروابط العاطفية وتجذيرها وجعلها أكثر عمقًا ونقاءً وأصالةً واطمئنانًا. وكأنّ كل هذه الدراسات ما هي إلّا تجسيد آخر لمقولة التبريزي: لا تقترب حين تنبهر ولكن اقترب حين تطمئن.

 


وضوح الذات ونضوجها: الجائزة الأكبر التي يُمكِن منحها للآخر


خلافًا لما هو مُفترَض.. إلّا أنّ قدرة المَرء على البقاء لوحده، هي الشرط الأساسي للقدرة على منح الحُبّ

– المُحلّل النفسي: إريك فروم

 

حين يتحدّث الأشخاص عن شكل العلاقات العاطفية التي يتمنّونَها لأنفسهم ومستقبل العلاقة الزوجية التي يرغبون بها، يبدو الحديث في كلّه ومجمله حول (الصفات التي ينبغي أن تكون موجودة في شريكي) وكأنّ العلاقة ونجاحها وجمالها تتوقّف على الآخر فحسب، بما فيه من صفات الّلطافة والفكاهة والجاذبية والكاريزما والأناقة والعطف والحنان. لكنّ عيب هذا النقاش ومشكلته هو أنّه يُغفل موقعية المُتحدّث ودوره بالعلاقة وما يُمكن أن يُضيفه هو للآخر الذي سيرتبط به. بعبارة أخرى، غالبًا ما تغيب عن هذه النقاشات: صفاتي أنا، وشخصيتي وعيوبي ومخاوفي وهواجسي ورغباتي وخصائصي التي سأمنحها لمن سأرتبط به.

يدخل بعض النّاس العلاقات العاطفية كما لو أنّه شخص يمشي على حافّة جبلية، يتعثّر بصخرة، يُريد أن يقع، لكنّه يبدأ بالركض باتّجاه الوادي حتّى لا يسقط ولا يرتطم بالأرض. السياق الكبير الّلاحق هي أنّك تنسى نفسك وأنتَ تركض في مكان لم تكن تنوي أساسًا الركضَ فيه. إنّك تركض كي لا ترتطم وباتّجاهٍ لم تختره ابتداءً، ما يعيبك ليس التعثّر، ولكن امتهانك الركض في الوديان. هذا التسارع قبل الارتطام وهذا الركض قبل السقوط، يُعيدنا للمفارقة الذكية التي التقطها عالِم النفس الوجوديّ رولو ماي حين قال: إنّها لعادةٌ غريبة للغاية لدى البشر، أن يركضوا بسرعة أكبر، حين يَتيهون ويُضيّعون الطريق.

تثبت الدراسات التجريبية في علم النفس أنّ (وضوح مفهوم الذات) Self Concept’s Clarity يرتبط بشكل إيجابي بالرضا العاطفي والزوجيّ لدى الأفراد الذين يتمتّعون به. حين تعرف مَن أنت! وماذا تريد من هذه الحياة، وما الذي تتوقّعه من الآخرين، فأنتَ لا تمنح نفسك السكينة فحسب، بل تمنح السعادة لرفيق دربك وشريك حياتك وصديق عمرك. إنّ أفضل هدية يُمكننا أن نمنحها لمَن نُحبّ هي أن نكون قابلين للفهم بالنسبة لهم. إنّ التوهان والضبابية وعجز عدد كبير من البشر عن الجلوس مع أنفسهم وتفاقم الضباب بينهم وبين فهم ذواتهم، إنّما يُعَد العيب الأكثر انتشارًا ومع هذا لا أحد يتحدَث عنه،  إنّها ذات الصدمة التي قدّمها التحليل النفسي الفرويديّ للعالَم عن الّلاوعي حين قال: النّاس لا يعرفون ماذا يُريدون، ولا يعرفون أنّهم لا يعرفون ذلك!

إنّك حين تعي نفسك واحتياجاتها ومخاوفها، فأنتَ تقدّم للآخر أرضًا صلبةً يتقاسمها معك بدل أن تُلقي عليه مهمة إكمالك أو إنقاذك. على الصعيد التطبيقي، يساعد هذا النضج الداخليّ في تجنّب مشكلة “الانهيار” تحت وطأة الضغوط الزوجية، لأنّك حين تعرف من أنت وما الذي تريده بوضوح، تقلّ احتمالية الشروع في علاقة عبثيةٍ أو الانخراط في نزاعاتٍ قد تولد من حيرة الذات وجُبنها في مواجهة الحياة

قدّمت دراسة تجريبيّة بارزة لعالِم النفس غاري ليواندوفسكي وزملائه دليلًا عمليًا يؤكّد أهمّية وضوح مفهوم الذات في إنجاح العلاقات العاطفية وزيادة مستوى الرضا العاطفيّ والالتزام لدى الشريكين. إذ تبيّن من خلال سلسلتين من الدراسات أنّ الأفراد الذين يتمتّعون بـ”وضوح الذات” Self-concept Clarity ينجحون في بناء علاقاتٍ أكثر متانة، ويتجلّى ذلك في معدّلات أعلى من الرضا والالتزام على المدى الطويل. تُشير الدراسة أيضًا إلى أنّ وضوح الذات يُسهِّل عملية ضمّ الآخر إلى مساحة الذات، بمعنى أنّك حين تعرف نفسك جيدًا، تصبح قادرًا على انتقاء جوانب إيجابية من شريكك لدمجها في كيانك دون أن يسبّب ذلك ضبابيةً أو تناقضًا لهويّتك. الأمر الذي يُرسّخ شعورًا بالثقة والاستقرار لدى الطرفين، لأنّ كلًّا منهما يُقدّم للآخر ذاتًا واضحة يمكن فهمها والتعامل معها بفاعلية. من ثَمَّ، لا تكون العلاقة هروبًا من فراغٍ داخليّ، بل تبادُل صادق بين ذاتين ناضجتين، يُغذّي كلٌّ منهما الآخر ويُعمِّق الإحساس بالأمان والانتماء على الصعيدين النفسيّ والوجدانيّ.


ذوات قبيحة أحيانًا: عن عنف الّلغة والحياة الزوجية


يحدث في الزواج أن يشعر كلا الزوجين بالضياع
أحيانًا، نُواجه مشكلاتنا معًا، نسند بعضنا بعضًا ونُقاتل جنبًا إلى جنب
أحيانًا، يُقاتل كلّ منّا مشكلاته لوحده، وكأنّ عوالمنا معزولة عن الآخر
وأحيانًا، نُقاتل بعضنا بعضًا ويُدمي كُلٌ منّا الآخر
هذا تمامًا ما يحدث، في الزواج

– ساندرا في فيلم “تشريح سقطة”  (بتصرّف طفيف) Anatomy of a Fall

 

في فيلم تشريح سقطة (Anatomy of a Fall) للمخرجة جوستين ترييت، تُفتَح الستارة على ساندرا وهي تُجيب عن أسئلة توجّهها لها صحافية شابّة ترغب في إعداد تقرير عن حياة هذه الكاتبة المُبدعة “ساندرا” ولكنّ التواصل بين ساندرا والصحافية يكاد يكون أشبه بحفلة تعذيب بسبب ضجيج الأغاني المُرتفِع الذي يصدر من علّية المنزل، حيث زوج ساندرا يحبّ أن يعمل بينما يُشوّش على المنزل بأكمله بهذه الأصوات الصاخبة والاهتزازات العنيفة، الأمر الذي يجعل هذه اللقاء الصحافي مقابلة رديئة مليئة بالإحباط والانزعاج.  لاحقًا سنرى جثّة الزوج هامدة على الثلج، بعد سقوطه من علّية المنزل وارتطامه العنيف متسبّبًا بمقتله في ظروف مشبوهة، لينتقل بنا الفيلم إلى ساندرا وهي تواجه محاكمة قانونية بعد وفاة زوجها، حيث تتراكم الشكوك حول ساندرا لتأخذ هي بالدفاع عن نفسها وسرد تفاصيل مشكلاتهما اليومية، الأمر الذي يجعلها في كثير من الأحيان تبدو كما لو أنّها “وحشًا” في عيون القاضي وهيئة المحلّفين، حدًّا دفعها إلى الدفاع عن نفسها أمام طفلها الكفيف الذي استدعته المحكمة للشهود والإفادة وحضور جلسات المُحاكمة، وعندها تُخاطب ساندرا ابنها قائلة:

“حبيبي، أريدك فقط أن تعلم أنّني لستُ ذلك الوحش الذي قد يبدو لك حين تسمع كلّ هذه التفاصيل، كلّ ما تسمعه في المحاكمة… إنه مشوّه ومُجتزَأ. لم يكن الأمر كذلك أبدًا”

 

Watch Anatomy of a Fall Streaming Online | Hulu (Free Trial)

 

كان تنويه ساندرا لإبنها ضروريًا، لأنّ الّلغة قادرة على تشويه الحقائق، ولأنّ بعض الأمور تبدو أسوأ حين نفصح عنها بالكلمات. حين نسرد الحقائق دفاعًا عن أنفسنا من السهل أن ننزلق منزلق التوحّش بكيفية استخدام الّلغة في تصنيف الآخر وتشويه صورته. إذ كما تبيّن الأحداث أنّ كلماتٍ بسيطة ربّما قالها الزوج أو قالتها الزوجة في لحظات الجدال، ستصبح لاحقًا مادّة قاسية في قاعة المحكمة لتُدين أحدهما أمام القانون وأمام الرأي العام. إنّ الّلغة عنيفة بطبعها حين تنزع من سياقها، لأنّ جزءًا كبيرًا من التواصل العاطفي والزوجيّ مبنيّ على الانفعالات ونبرة الصوت ولغة الجسد. وعندما تُنتَزَع هذه الكلمات من مشاعرها وسياقها الفوريّ، تتحوّل إلى خنجر مسموم يطعن في صميم الأحداث، أو قنبلة صوتية تهدم كل ما بُني من ودّ ووئام طوال السنين.

بحسب الدراسات النفسية التطوّرية، فإنّ “الّلغة ليست سوى تعبيرات صوتية عن المشاعر والإحساسات، وهي بطريقة أو بأخرى وسيلة للتخفيف من وطأة التهيّج النفسي الانفعالي لدى المرء، ووسيلة لتصريفِ هذا التهيج وتقليص حدّته”. ويوضّح عالِم الصوتيات الشهير “فوناجي” في هذا السياق، أنّ كلّ تعبير صوتي، هو من منظور التحليل النفسي إشباع لرغبة داخلية وتحقّق لذّة شخصية في تنفيس المشاعر التي لا تُطاق، وكأنّ أعضاء النطق تؤدي وظيفة تطهيرية نرجسية لتخليص الذات من كلّ حمولاتها الشعورية عن طريق إصدار أصوات الكلام. بهذا المعنى فإنّ الكلام، حتى ذلك الذي يبدو عنيفًا وغاضبًا، قد يحمل في طياته وظيفة تطهيرية، فهو يسمح للزوجين بتنفيس شحنات الغضب والإحباط والمخاوف المكبوتة، وتخفيف حدّة التوتّر النفسيّ عبر إلقائها نحو الخارج وإقصائها بعيدًا عن الذات. غير أنّ هذه الوظيفة التطهيرية للكلام قد تتحوّل إلى أداة للعنف الرمزي والنفسي في العلاقات الزوجية، خاصّة حين يُطلق أحد الطرفين جُمَلًا قاتلة من قبيل “أنتَ لم تعد الشخص الذي تزوجته” أو “لم أعد أشعر بأي شيء نحوك”، فكأنّه بطريقة أو بأخرى يمارس نوعًا من القتل الرمزي للعلاقة، ويُعلن موتها قبل موتها الفعلي.

 

 

من الملفت أنّ الدرس التحليلي النفسي يُقدّم لنا مفارقة عميقة في العلاقات العاطفية التي تهمّنا، فبحسب آدم فيلبس، المُحلّل النفسي، نحنُ البشر نحتاج إلى استيعاب إحباطاتنا وفهمها كي نحافظ على إحساسنا بالواقع، إذ يُصبح الناس “حقيقيين” بالنسبة لنا عندما يُحبطوننا، وإلا سيظلّون مُجرّد شخصيات خيالية في مُخيّلتنا، لأنّه إن لم يُحبطنا الآخرون فسيكونون حتمًا ملائكة أو شخصيات مثالية، وإذا أحبطونا زيادة عن الّلزوم، فسنراهم كما لو أنّهم أعداء أو أشرار. لا تقتصر هذه المفارقة على الزواج فحسب، بل تمتدّ لتشمل كلّ العلاقات الإنسانية الحميمة. فكما يشير فرويد نفسه: “تُبيّن أدلّة التحليل النفسي أنّ كلّ علاقة عاطفية حميمة، تستمرّ بين شخصين لبعض الوقت -كالزواج أو الصداقة أو الأخوّة أو العلاقات بين الوالدين والأبناء- تحتوي بالضرورة على رواسب من مشاعر النفور والعداء، والتي لا يمكن إدراكها إلا حين نتعرّض للإحباط والخذلان”. لذلك فإنّ أحد شروط نضوج أي علاقة عاطفية يتمثّل في كيفية التكيّف مع هذه الإحباطات الضرورية وإدارة أضرارها، لا سيّما أنّ وجود بعض هذه الإحباطات جوهريّ لاختبار صدق العلاقة، بينما تحوّل الإحباطات المُفرِطة والمتتالية العلاقة إلى سجنٍ عاطفي ومساحةٍ خصبة لنمو الكراهية والضغائن.

يطرح الفيلسوف الألماني الكوريّ بيونغ تشول هان (Byung-Chul Han) في كتابه إقصاء الآخر The Expulsion of the Other (2018) فكرة مهمّة حول اندثار فكرة “الآخر” من ثقافتنا المعاصرة. يرى تشول هان أنّنا في حياتنا الحديثة لم نعد نلتقي فعليًا بأشخاص مختلفين عنّا، نحنُ لا نُحبّ ذلك ولا نُريده ولا نتمنّاه، إذ لم نَعد نُخاطر في علاقاتنا لالتقاء شخص “آخر” بالمعنى الفعليّ، فكلّ من نبحث عنهم هم أشخاص يشبهوننا، سيساعدوننا على إعادة إنتاج “الأنا” الخاصّة بنا واستنساخها وفرض تكاثرها كي نستمرّ في أوهامنا وفي حبّنا لذواتنا بالطريقة التي اعتدنا عليها. وبهذه الطريقة يتمّ “ثني الآخر” وصقله وطرقه وسحبه وإعادة تشكيله حتى يصير كيانًا يُشبهنا، نتعرّف فيه على أنفسنا في صورته. إنّ النرجسية الكامنة فينا تجعلنا نُعيد تشكيل الآخر في هيئةٍ تلائم قوالبنا الذهنية عن أنفسنا حتى نطمئن ونشعر أنّ العالَم آمن ومفهوم، ولكنّ هذه الحيلة لا تقودنا إلّا نحو نتيجة كارثية، هي: اختفاء الآخر!

 

The Expulsion of the Other: Society, Perception and Communication Today by Byung-Chul Han | Goodreads

 

هكذا، يتحوّل الحبّ والعلاقات العاطفية في العالَم الحديث إلى نسخة رديئة من التفاعل الإنساني، إنّ الدخول في علاقة عاطفية بات أشبه بشراء مرآة كاذبة، مرآة لا تُرينا أي انعكاس سوى انعكاس ذواتنا وتوقعاتنا وأوهامنا. نحن لا نرى الآخر كما هو، ولا نتقبّل اختلافه وفرادته، بل نحاول تشكيله ليتطابق مع الصورة التي نحملها عنه في داخلنا. في المُقابل، يرى مارتن بوبر أنّ العلاقة الحقيقية مع الآخر تتطلّب وجود “مسافة بدائية” (Primal Distance) تسمح لنا بأن ندرك الآخر باعتباره كائنًا مستقلًّا عنّا، له هواياته واهتماماته وأفكاره ورغباته. لن يكون بإمكاننا التواصل مع الآخر طالما نُصِرّ على اختزاله إلى أداةٍ أو كيانٍ يُشبع رغباتنا أو يُثبّت وجهة نظرنا عن ذواتنا. يحتاج الزواج الصحيّ إلى مسافة عميقة تحترم تفرّد الآخر. ومهما تشابهنا فإنّه لا يُمكن للآخر أن يُطابقنا تمامًا أو يتطابق معنا، بل يحتفظ بكيانه المُستقِلّ في كُلّ الأحوال. إنّها الفجوة التي تجعل اللقاء الزوجيّ مُمكنًا وتحافظ على مرونته وممكنات تجديده. أمّا لو انهارت هذه المسافة تمامًا وأراد أحد الشريكين أن “يحوز” أو “يلتهم” الآخر بسلطته الّلغوية أو النفسية أو الاجتماعية، فستفقد العلاقة توازنها ويضمحلّ فيها الآخر.

 


بين مقصلتين: تعاسة العيش بعد الانفصال وبؤس الاستقرار الزوجيّ


العائلة هي المَلاذ الفردوسيّ.. في عالَم لا يرحمُ أحدًا

– كريستوفر لاش

هل يُمكِن أن نُحِبّ دون أن نتعرّض للأذى؟ هذا سؤال كنت قد تناولته في النشرة البريدية الأولى والخاصّة بهذه المدوّنة. لكن ما هو الحبّ أساسًا؟ ما الذي يجعلنا نقول أنّ فُلانًا يُحبّ فلانة؟ تُستَلهَم معظم صور الحبّ من البُنى الاجتماعية والصور الذهنية التي تخلقها الثقافة والإعلام. يُشاهد أحدنا فيلمًا ما تُعجبه تفاصيله، فيقول: هكذا تمامًا أريد أن أُحِبّ وأن أُحَبّ وإلّا فـ لا. ولذلك يشيع أن يُنظَر دائمًا إلى الحبّ بوصفه نقيض الكراهية. لكنّ ما نعرفه من التحليل النفسي أنّ حبّ الأب لأبنائه قد يكون مُدمّرًا وهنالك أنماط من حبّ الأمّ لأطفالها لا يزيدهم إلّا تشويهًا واعتمادية! يقولك لكَ أحدهم: إنّها أمّي! وهي لا تفعل ما تفعله إلّا لأنّها تُحبّني! لكن ما معنى الحبّ هنا؟ هل نقصد به النوايا الطيّبة؟ ماذا عن النتيجة النهائية لهذه النوايا الطيّبة؟ ماذا لو كانت كارثية؟

 

 

تعود بنا الإجابة إلى صفحات التاريخ، حيث نتوقّف وقفة إجلال وإكبار لابن الخطيب الأندلسيّ في كتابه “روضة التعريف بالحبّ الشريف” حين يُعرّف الحبّ بقوله: إنّما الحُبّ، حُبٌّ يُصعّدكَ و يُرقّيك (يرفَعُكَ ويرتقي بكَ). بهذا المعنى فإنّ نقيض الحبّ ليس الكراهية، ولكن التدمير. فكلّ علاقة تدمّر اتّصالك مع نفسك، وتفقدك أصالتك، هي حتمًا أي شيء إلّا الحبّ. قد يكون اسمها زمالة أو علاقة ذات منفعة أو صداقة وظيفية، قد يكون إسمها أي شيء، لكنّها حتمًا ليست حُبًّا. وإذا كان الحبّ بناءً متواصلًا، وجُهدًا نضعه في الآخر الذي نحبّ، كي ينمو ويزدهر ويتّسع بطريقة تزيد من اتّساقه مع ذاته، ومن قربه لنفسه ومن تحقيقه لتطلّعاته، فهذا يعني أنّ الحبّ يتطلّب بالضرورة بعضًا من الجنون وكثيرًا من الحكمة، إنّ الحبّ يأخذُ وقته، ولهذا فهو يتطلّب صبرًا.

لا يأتي الحبّ بدون صبر، وقد تنبّه المُحلّل النفسي النمساوي سيجموند فرويد لمفارقة التعاسة النسبية التي تفرضها الحياة الزوجية، لكنّها في المُقابل توفّر قدرًا من الاستقرار العاطفي وتمنح صفاءً ذهنيًا وموقعية أكثر وضوحًا تجاه الذات والعالَم، حين قال: إنّ أفضل خطوط الدفاع التي نملكها ضد أهوال الوجود ومخاوف الحياة هي الحُبّ والعمل والحياة الأُسَريّة. وهي الطريقة الوحيدة كي نحيا في عالَمٍ لا يعبأ برغباتنا ولكنّه قد يُلبّي بعض احتياجاتنا!. لا سبيل من الألم في هذا العالَم، المهم أن نستبدل الصراعات العاطفية الحادّة بالاستقرار الذي تُمثّله التعاسة العادية للحياة اليومية. إنّ الحُبّ والعَمَل والأُسرة تُمكّن كُلّ واحد منا من استكشاف رُكن صغير في هذا العالَم وقبول هذا الركن الصغير بشروطنا الخاصّة.

بهذا المعنى، تحتاج الزوجية حبًّا كي يستقرّ، هذا الحبّ شرطه أن يكون مُتجدّدًا. وكثيرًا ما تقترن لفظة الحبّ والمحبّة بالإله، لا من جهة تشاركية صفات الرأفة والرحمة والعطف فحسب، ولكن لكي يكونَ الحبّ فلا بُدَ أن يكون متجدّدًا، وأن يكون الحبّ مُتجدّدًا يعني أنّنا نحتاج لتخليقه على الدوام، والخلق والتخليق سمة من سمات الألوهة، فالله الخالق، يخلُق من العدم، والله المصوّر، يمنح الأشياء صُورها، والله المُحيي، يُحيي الأرض بعد موتها. والمُحبّ إنّما يستلهم من صفات الألوهة -كما ذهب لذلك الإمام الغزالي في كتابه “المقصد الأسنى”- فيتقرّب الإنسان إلى ربّه بمقدار قدرته على التحلّي بصفات ربّه وأسمائه الحُسنى.

وقد كان الفيلسوف الفرنسي آلان باديو قد عرّف الحبّ بأنّه ابتكار الاستمرارية. وأنّ أيّ متحابَين اثنين لا بُد أن يكونا على مقدرة من إعادة ابتكار الحياة فيما بينهما كي يكون الحبّ موجودًا ودائمًا ومستمرًّا. إذ ينتهي الحبّ في الّلحظة التي نتوقّف فيها عن ابتكار معنىً جديد للحياة مع الآخر، في أيّ مرحلة من مراحل عمرنا.

لكنّ العلاقات بطبعها مُخاطرة، وتجربة، وهي في أفضل أحوالها رِهان نعقده على الآخر، نمنحه الثقة، نُسلّمه أنفسنا، نأتمنه على قلوبنا. وهذا يعني بالضرورة أنّ العلاقات العاطفية والزوجية، قابلة للتعثّر، بمنطق إحصائي طبيعي، يصحّ أن ندخل علاقة زوجية لنستنتج لاحقًا أنّها ليست العلاقة الأفضل لنا ولأنفسنا. كما يحدث أن يتعثّر الأشخاص الطيّبون بزيجات سامّة وبائسة. وأذكر أنّ “تيد” في فيلم قصّة زواج Marriage Story قد صاغ هذه التعثّرات التي قد تحصل بفعل الزواج، ضمن مفارقة قانونية، حين قال:  يلتقي محامو الجرائم بالأشخاصَ السيّئين وهُم في أفضل أحوالهم (نجاح القَتَلة في ارتكاب جرائمهم) ويلتقي محامو الطلاق بالأشخاص الجيّدين وهُم في أسوأ أحوالهم (فشل الطّيبين في إنجاح زواجهم).

ليس الانفصال أو الطلاق شيء سيّء بحدّ ذاته، ولذا كان (الطلاق) خيارًا مشروعًا بالإباحة والتخيير على الأقلّ في الشريعة الإسلامية. وبالرغم من أنّ الشريعة  تحاول كثيرًا نظم سلسلة من الإجراءات لتأخير هذا الخيار ومقاومته بإصلاح ذات البَين، ومنح الفُرَص والمُهَل الزمنية، إلّا أنّها تخلص بالنهاية لكون الطلاق حلّ لكثير من الأحوال الزوجية البائسة والتي لا يُجدي معها إصلاحًا ولا توفيقًا. فإذا كان أحد الأطراف غير راغب في التغيير، أو كان هناك عنف أو إيذاء نفسي ممنهج، فإن الانفصال قد يكون الخيار الأقل سوءًا!

لكن، هل الانفصال أو الطلاق بالفعل يمنح المنفصلين السعادة التي كانوا يتمنّونَها؟

أحد البحوث الممتازة والتي تناولت عيّنة إحصائية كبيرة، والمعنونة بـ “هل يجعل الطلاق الناس سعداءً؟” «Does Divorce Make People Happy? Findings from a Study of Unhappy Marriages» استند الباحثون إلى بيانات المسح الوطني للأسر والأسر المعيشية الذي ضمّ 5232 شخصًا متزوجًا، واختاروا منه عيّنة مكوّنة من 645 فردًا صنّفوا زيجاتهم بأنّها «غير سعيدة»، وتمّت متابعتهم على مدى خمسة أعوام. وسنجد أنفسنا أمام نتائج مُخيفة تتطلّب منّا قدرًا من التأمّل:

86% من الأزواج غير السعداء لم يعانوا من ظاهرة العنف أو التعنيف في علاقتهم الزوجية

و77% من غير السعداء الذين طلّقوا لاحقاً لم يبلّغوا عن وجود أيّ عنف في علاقتهم الزوجية! (ولم يكن سببًا واردًا في لائحة أسبابهم للطلاق)

هذا يعني أنّ غالبية الزيجات غير السعيدة لا يُعاني أحد أطرافها بالضرورة من التعنيف الجسدي -وهي الحجّة الأكثر قبولاً أخلاقيًا واجتماعيًا للانفصال- ومن المثير للاهتمام أنّ الدراسة وجدت أن 43% من الأزواج غير السعداء الذين تطلّقوا كانوا هم أنفسهم غير سعداء بعد خمس سنوات. وتشير البيانات البحثية إلى أنّ الأسباب التي تدفع الناس للبقاء في زيجات غير سعيدة متعدّدة ومعقدة، منها على سبيل التعداد:

1. الالتزام تجاه الأطفال -حيث اعتبر 67% أن انفصال الأبوين يضرّ بالأطفال-
2. الاعتبارات المالية والكفاءة المالية للفرد بعد الانفصال – خاصة للنساء اللواتي قد يواجهن انخفاضاً حاداً في المستوى المعيشي
3. عدم الثقة بإمكانية تحقيق سعادة أكبر بعد الطلاق.
4. الالتزامات الدينية والأخلاقية تجاه العهود الزوجية
5. الخوف من الوحدة والرفض الاجتماعي
6. وجود شبكة اجتماعية متينة للأسرة تجعل من الانفصال فعلًا مُحرِجًا

ما يُثير الدهشة في الدراسات النفسية وفي التحليل الإحصائي الشهير، هو أنّ معظم المُطلّقين حديثًا يُبدون تأقلمًا ظاهريًا مع وضعهم الجديد، لكنّ 60% منهم يُظهرون مستويات مرتفعة من القلق والاكتئاب بعد عامين من الطلاق، وتشير النتائج إلى أنّ 19% فقط منهم يجدون أنفسهم في زيجات سعيدة ثانية خلال خمس سنوات بعد الطلاق.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الدراسة تُشير إلى أنّ 46% من المُطلّقين في دراسة بولاية نيوجيرسي عبّروا لاحقًا عن ندمهم وتمنّوا لو أنّهم وأزواجهم السابقين كانوا قد بذلوا جهداً أكبر لحلّ خلافاتهم، واتّسق هذا مع استطلاع آخر بولاية مينيسوتا، حيث أفاد 66% من المطلقين عن ندمهم لعدم محاولة إصلاح العلاقة الزوجية بشكلٍ أفضل وببذل جُهد أكبر.

لا يبدو أنّ الطلاق والانفصال حلّ واعد كما يبدو للوهلة الأولى بالنسبة للكثير من المشكلات الزوجية، الّلهم إذا استثنينا بعض الحالات الزوجية التي يتعثّر فيها المرء فعلًا مع شخص سامّ أو مُعتلّ نفسيًا أو إنسان مُؤذٍ وضارّ، وهو تعثّر وارد إحصائيًا وواقعيًا، وحينها يكون الطلاق والانفصال حلًّا جذريًا وذات فائدة. في المقابل، لا يبدو الزواج أيضًا كمَهمّة سهلة ويسيرة ولا تجربة زاخرة بالسعادة المتتالية، ومع هذا تظلّ الأسرة بُنية صلبة لمواجهة تحدّيات الوجود ونكباته الحادّة، وقد وصفها الناقد الأمريكي كريستوفر لاش بتعبير بديع ذات مرّة، حين وصفها بقوله: العائلة هي المَلاذ الفردوسيّ.. في عالَمٍ لا يرحَمُ أحدًا!

أن تُحبّ، يعني.. أن تُواصل الحبّ حين تنعدم الأسباب!

أن تحبّ يعني أن تسمحَ للآخر بأن يتغيّر وأن ينضج وأن ينمو ويتّسع!

أن تحبّ يعني أن تتعلّم الصبر وأن تُعيد ابتكار الاستمرارية!

أمّا إن كُنتَ تسأل عن الكيفية، فالكلام يطول علميًا وعمليًا، ولكنّي حتّى ذلك الحين، أحيلك عزيزي القارئ لطُرُق المُحبّين وحِيَلهم وعزيمتهم وإصرارهم، وتحديدًا ما قاله أبو زيد السُهَيليّ من قبل:

تَقُول لا حِيلَةً في الوَصلِ أَعرِفُها

لَو صَحَّ مِنكَ الهَوى.. أُرشِدتَ للحِيَلِ

تعليق حول مسألة الزواج والمِزاج الّليبرالي للنقاشات المعاصرة (قراءة اختيارية)

“لقد دفعتنا الحداثة لكي نُصبح مُرهَفي الإحساس تّجاه أنفسنا
ولكن وبالمُقابل صارَ من المُبرّر أن نكون قُساة مع الآخرين بشكلٍ فظيع”

– الفيلسوفة البريطانية جيليان روز

يتزوّج مئات الملايين من النّاس، لكن لا يختبر شخصان اثنان تجربة الزواج بنفس الطريقة. بهذا المعنى، من البدهي القول أنّ الزواج ليس ظاهرة جديدة، لكنّ تجربة الزواج في عالَم اليوم، لا شكّ وأنّها تختلف عن تلك التي اختبرها آباؤنا وأجدادنا وأسلافهم من قبل. فمُحدّدات العصر والظروف المتغيّرة في الخارج لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون معزولة عمّا يتواجد خلف أبواب البيوت وعمّا يقبع تحت سقوفها بل وحتّى التفاصيل الحميمية على فراش الزوجية.

ثمّة اتجاه متزايد لدى التيار الّليبرالي من الباحثين في علم النفس، لتقويض قداسة  الزواج الأُحادي Monogamy  (أن يتزوّج الرجل امرأة واحدة، وأن تتزوّج المرأة رجلًا واحدًا) من خلال الإشارة إلى كثرة المشكلات الزوجية التي تجلبها مؤسّسة الزواج الأحادي. بالرغم من أنّ أشكال الزواج المتعدّد Polygamy حول العالَم بحسب دراسات عديدة، تكاد لا تزيد عن 2% حول العالَم، بل وإنّها لا تزيد في الدولة الواحدة عن 0.5% في أحسن تقديراتها مع غيابها تمامًا في العديد من البُلدان.

بطبيعة الحال، يُمكن فهم البُعد السيكولوجيّ لدى هؤلاء العلماء بحثًا عن إملاءات أيديولوجية لهم وللآخرين تجعلهم أكثر تحريرًا لأنماطهم المعيشية وأكثر تساهلًا مع انفلاتهم وغياب انضباطهم الذاتيّ وزيادة فُرَصهم بإيجاد مقبولية لنزواتهم شديدة الإلحاح، بالإضافة لبُعد سوسيولوجيّ آخر لتعزيز إملاءات الحضارة الغربية وقيمها. وعلى أيّة حال، وفي حال أردت عزيزي القارئ أن تُدرِك كيف يستدلّ هؤلاء على عطب مؤسسة الزواج التقليدية، إليك على سبيل المثال مشكلة شائعة لدى الأزواج وهي الخيانة Infidelity إذ بحسب هذا التيّار العلمي، لا تعتبر الخيانة الزوجية مجرّد هفوة فردية أو خطأ غير مقصود في منظومة متماسكة، بل برأيهم أنّ الانتشار الواسع لمعدّلات الخيانة، ما هي إلّا دليل على عطب الزواج الأحادي بالأساس وعدم جدواه وحاجة الأفراد على الدوام للبحث عن بدائل لشركائهم وعن تجربة الجماع مع عناصر مختلفة ومُتعدّدة.

لا يقتصر نقد الباحثين على مسألة الخيانة فحسب، هنالك أيضًا الضجر أو موت الشغف، الذي كثيرًا ما يُشار إليه بوصفه مقتل الزواج بعد سنواته الثلاث الأولى، ناهيك عن النقد الشائع المتمثّل بالصدمات النفسية التي تخلقها مؤسّسة الزواج لدى الأطفال والأجيال الناشئة بحكم الخلافات الزوجية، والتفكّك الأُسريّ، وإساءة التربية والإهمال العاطفي ونحوه.. بالإضافة إلى حزمة جديدة من الوصاية الفكرية على المتزوّجين، والتي تتضمّن الحث على استكشاف الذات وخاصّة التوجّهات الجنسية المثلية، وهي تأتي على هيئة مُصادرة على الذات، من مثل: “حتّى وإن لم تكن مثليًا حتّى هذه الّلحظة، فهي مسألة وقت، قبل أن تكتشف ميولاتك المثلية.. كلّ ما تحتاجه هو الانفتاح الذهني، والتحرّر من الأطر التقليدية وأن لا تعاقب نفسك على نزواتها وأن تسمح لنفسك بتقبّل كلّ تلك الأفكار المجنونة”. ثمّة نقودات عدّة يمكن توجيهها لكلّ المقولات السابقة، لكن لا يتغيّى هذا المقال الردّ عليها أو تفنيدها.

المسألة المهمّة هنا ومن منظور تطوّري ومنهجيّ ما، هي أنّنا لا ينبغي أن نتجاهل هذه الندرة الإحصائية لأشكال الزيجات الأخرى في العالَم، خاصّة في ظلّ عالَم ما بعد بُنيويّ، تفقد فيه البُنى التقليدية إلزاماتها وسلطتها على الأفراد وطريقة عيشهم. لا يمكن لنا الاستهانة أبدًا باستقرار واستمرار نُظُم معيشية مُحدّدة للبشر منذ آلاف من السنين قبل الميلاد كما لا يمكننا إنكار فاعليتها ووظائفها. حين يستقرّ البشر على نمط معيشي أو بُنية اجتماعية ما مثل الزواج وتحديدًا الزواج الأُحادي، فهذا يعني على أقل تقدير نجاعة هذه البُنية أو دعونا نقول: وجود عوامل موضوعية وإيجابية تجعل من الزواج الطريقة الأمثل التي اجترحها البشر أو الأديان لتنظيم عيش الأفراد بالقرب من بعضهم بعضًا، وبوصفها أفضل طريقة كي يعتني كلّ واحد منّا بالآخر الذي يعنيه مدّة 80 سنة تقلّ أو تزيد، يتشاركان فيها الضحكات والدموع، المسرّات والعذابات، النجاحات والخسارات.

يُعطينا البُعد السوسيولوجيّ للكيفية التي يعيش فيها النّاس حياتهم ملمحًا مهمًّا، فمن ناحية فقهية يملك المسلمون خيار تعدّد الزوجات كحُكُم بالإباحة كما هو معلوم، ومع هذا وبحسب إحصاءات عدّة فإنّ نسبة الرجال المُعدّدين تكاد تكون محدودة إحصائيًا، بحيث تشير الدراسات إلى أنّ من بين 75 رجل مسلم ستقابله في حياتك، ستجد شخصًا واحدًا مُعدّدًا فقط.

هنالك اعتبارات طَبَقية وثقافية بطبيعة الحال، فمن الواضح أنّ تعداد الزواج يرتبط بثقافة ذوي الطبقات الاجتماعية الفقيرة خلافًا للمتوقّع لدى النّاس. وقد يسأل سائل هنا: أليس من المفترض أنّ الكفاءة المالية شرط أساسي للتعدّد؟ حسنًا، هذا سؤال منطقي! لكنّ واقع الحال يُفيد بأنّ الكُلَف المعيشية للطبقات الفقيرة بطبيعتها محدودة ومحصورة. انظر مثلًا ما يحدث مع الطبقات المتوسّطة وفوق المتوسّطة في حال تدريس أطفالهم، تعتني الطبقات الاجتماعية المتوسّطة والعليا بجودة تعليم الأبناء ولذلك فإنّ تكلفة تعليم طفل واحد في العام الواحد لدى الطبقات المتوسّطة قد تفوق تكلفة تدريس 500 طفل سنويًا من الطبقات الفقيرة الذين يعتمدون على التعليم الحكومي والأشبه بالمجانيّ. بهذا المعنى، حين تعمّ البلوى وتستوي الحاجة، يتحرّر الفقراء من الإلزامات الاجتماعية المفروضة (كجودة الطعام، جودة التعليم، الأُبّهة وفخامة المنزل..) ضمن مُبرّرات الفقر وقهريات الحرمان.

أمّا الطبقات العليا والثرية، فإنّها أيضًا بحسب الدراسات، لا يميلون كثيرًا للتعداد، ويَندُر أن يتزوّج الأثرياء من عدّة نساء إلّا في أحوال مُعيّنة، مثل عدم قدرة المرأة الأولى على الإنجاب، والضابط الأساسي لدى الطبقات الاجتماعية العُليا والثرّية، يكون غالبًا محدّدات وتقاليد اجتماعية ترتبط بالوضعية الطبقية الخاصّة فيهم والأوساط الاجتماعية التي ينتمون إليها، حيث صورة العائلة والأسرة تعتبر جزءًا أساسيًا من تسويق الذات واحترامها، وعرضها أمام الآخرين، حيث التماسك الأسري مطلوب ولو تكلّفًا وتزييفًا، وفرادة الأبناء وعزفهم على البيانو ودراستهم بأرقى المؤسّسات التعليمية جزء لا يتجزّأ من مادة النقاش اليوميّ لهذه الطبقات.

لكنّ هناك تحوّل جذري يُغفَل عنه أيضًا يجعل مسألة التعدّد مسألة معقّدة في الأزمنة المعاصرة، وهي تضخّم مفهوم “الفرد” وتحوّله لمرتكز أساسي في العلاقات العاطفية، ففي الماضي لم يكن الفرد هو المركز، لكن القبيلة أو الإمبراطورية أو العشيرة هي مركز كلّ شيء، بهذا المعنى، يكون الزواج أو مؤسّسة الأسرة، أداة لخدمة مُتخيّلات اجتماعية كُبرى، ميثاق يحصل لما بعده، ولخدمة ما هو أكبر منه. من هنا لم يكن مفهوم التعدّد في الماضي يتعارض مع مفهوم “الوفاء” أو “الإخلاص” للزوجة، فهو مفهوم يصحّ باتّجاهات متعدّدة طالما أنّه مُتحقّق في كلّ علاقة على حدة. اليوم ومع تضخّم مفهوم الذات أو مقولة الفرد، لا يمكن فهم التعدّد دون الشعور بتتناقض حقيقي مع مفهوم “الوفاء” أو “الإخلاص” فالزوّاج اليوم يرتكز على وجود الفرد من حيث هو فرد، أو الأفراد من حيث هُم مجموعة من الذوات الوحيدة الذين يؤمنون بأهمّية العيش بشكلٍ ثُنائيّ وتشاركيّ ويصرّون عليه، بهذا المعنى، فالزواج قوامه الفرد، أنتَ، أنا، والتعدّد هو رغبتك بالالتفات عنّي أنا، ونابع من غياب شعورك العميق بالاكتفاء بي، أنا.. الفرد، أنا المرأة، أساس هذه الزيجة، وليست عشائرنا ولا قبائلنا ولا مشروعنا الأمميّ، وأيًّا كان، تظلّ الوضعية الفقهية للتعدّد وتموضعها ضمن حيّز الإباحة مُعطى مثير للاهتمام يكشف عن المرونة والتعقيد، المرونة من حيث انفتاح التشريع على أشكال جديدة لا يُريد القطع معها تمامًا، والتعقيد من حيث أنّه يرى أنّها تنظيمات لا ينبغي إلزام النّاس بها -وجوبًا- بطريقة عابرة للزمان والمكان والثقافة.

هذا تعليق على الهامش (كان مقدّمة للمقال في الأساس وقرّرت أن يكون ثانويًا واختياريًا للقارئ) والهدف من التعليق رفع الحسّ النقدي حول نقاشات عديدة مطروحة اليوم حول الزواج ومؤسّسته، وما يعنيني في هذا المقال ديناميات الحياة اليومية للزواج عن طريق إلقاء نظرة على تجربة الزواج في العالَم الحديث مرورًا ببعض تفاصيلها، معاناتها، جحيمها ومآسيها، وذلك من خلال الاستعانة بمسلسل (مشاهد من زواجٍ ما) Scenes of A Marriage بالإضافة لبعض الاستشهادات هنا وهناك من فيلم (قصّة زواج) Marriage Story وفيلم (تشريح سقطة) Anatomy of A Fall بالإضافة لبعض المشاهد المقتطفة من هنا وهناك كمسلسل (الأفضل أن تُهاتف سول) Better Call Saul ومقاربتها جميعًا من منظور التحليل النفسي ودراسات علم نفس العلاقات والزواج المعاصرة.