عَلمَنة المُجتمع وعقلنة الدين: حَرَج المُتديّن والتديّن الفرديّ

BY: Administrator

واحدة من من العبارات التي تَصِف علاقة الإنسان المُعاصِر بالدّين، مصطلح صاغته عالمة الاجتماع الديني غريس دافي:

 الإيمان
بلا انتماء 
Believing without belonging


وهي تصِف بذلك تنامي أنماط التدّين الفردي، بحيث يُؤمِن الفرد بدين خاصّ به غير ملتزم بمذهب أو مؤسّسة دينية

وهذا الشيء هو المقصود بتحوّل الدين لشأن خاصّ.. ويؤسّس فيه الفَرد علاقته الخاصّة مع الله أو المُقدّس ويخلق معنى خاصّ به

ما الذي نقصده بغياب الدينيّ؟ وما الذي تعنيه العَلمَنة بانحسار الدين من الفضاء العام؟ إذ المتديّنون متواجدون وبكثرة، وحيث الكنائس والمساجد والمعابد تملأ أرجاء الأرض، بل إنّه يُمكِن وتِبعًا لتنامي رأس المال الخاص، ووفقًا للتزايد السُكاني فإنّ أعداد المساجد اليوم أكثر بأضعاف مُضاعفة ممّا كانت عليه زَمن النبيّ والرسول الكريم.

يرتبط غِياب الدينيّ، بمفهوم العَلمَنة والنظرة المُعلمَنة للحياة. وتعني “العلمنة” تحرير الإنسان من النظرة الدينية أولًا، ومن النظرة الميتافيزيقية ثانيًا، على عقله ولغته وموقفه حيال الوجود، ونبذ جميع الرؤى الكونية المغلقة وتحطيم أي تفسير غيبي للوجود، وتخليص التاريخ من الحتميات والقدريات.

ونقصِد بالنظرة المُعلمَنة، التعاطي مع الذات أو الوجود أو المجتمع تعاملًا ينزع عنه أي قداسة أو أيّ إحالة لإلهيّ، أيّ أنّ الكَون ليسَ سِوى معادلات ميكانيكية وكيميائية وفيزيائية معقولة، ولا شيء غير ذلك، إن الانتظام الذي نراه في الكَون ليس سوى حركة منتظمة لمعادلات الكَون، ولا يعني هذا الانتظام وجود إله مُدبِّر يعتني في الكون أو أي فكرة متعالية من هذا النوع. وكذلك على مُستوى الذات، فهو حين ينظر إلى نفسه، لا يرى سوى جسد بيولوجيّ، هو في أصله امتداد عضوي ينتهي به إلى سلف مُشترَك ينتهي بدوره إلى الخليّة الأولى، التي في أصلها كائن بسيط أُحادي، يتألّف من مواد عُضوية أوّلية، هي مُجرّد غُبار كوني. أمّا عَلمَنة المُجتَمع فتتم أوّلًا عبر عَلمَنة العلاقات، إذ العَلاقات لا ينبغي أن تتحدّد بأيّ قيود أو ممنوعات، طالما أنّ الأطراف المتشاركة في العلاقة، راضية وموافقة على شكل العَلاقة بكامل حُريّتها وإرادتها، وهُنا لا يجدر بالدين أن يُحدّد لنا شكل علاقاتنا مع الآخرين.

 

إنّ العَلمَنة ليست نقيض التديّن، وهذه نُقطة مُهمّة للتمييز.. بل هي رؤية شمولية للوجود تبتلع حتى أنماط التديّن، وتُعيد انتاجها بقالب مُعلمَن، فحينما نقول أنّ شخص أو مجموعة ما تمتلك رؤية مُعلمَنة للوجود، فهذا لا يعني بالضرورة أنّهم قد تخلّوا عن دينهم أو خرجوا عنه (أو قد كَفَروا أو ألحدوا). فقد يكون الإنسان مُسلِمًا مُعلمنًا، وكذا مسيحيًا مُعلمَنًا، ويهوديًا مُعلمَنًا وهكذا دَوالَيك.

 وهُنا لا يتنقّل الفرد في حياته عبر بوابة الدين ونظاراته التي يرى الكون من خلالها، وإنّما على العكس تمامًا، يتنقّل عبر بوابة العَلمَنة وهكذا فقد ينظر المؤمن للدين  عبر نظّارات العَلمَنة باعتبار الدين شأن وظيفيّ أو غذاء روحيّ جيّد، يلزم بين الحين والآخر.

لكيّ نقترب أكثر من فهم مقولات غياب الدين أو أُفوله أو فُقدان فاعليته، ولكي لا نُطيل الشرح في نظريات الَعلمَنة في هذه الورقة، سنتنزّل لنرى نتائج ومظاهر هذا الانحسار للسُلطة الدينية على المجَال العام وحتى تشوّهه على مُستوى المَجال الخاص، وفيما يلي بعض الأمثلة العملية والإجرائية التي تعكس ذلك.

 

مثال (1)

– قد يعيش المُسلِم يومه بشكل طبيعي، ثُمّ يتنبّه فجأة إلى أنّ صوت الآذان مُرتفع بعض الشيء، وهذا لا يُزعجه هُو شخصيًا، لكن يتساءل: ما ذنب مَن لا يؤمنون به؟ لماذا يتحمّلون هذا الصوت المُرتفع الذي قد يتسبّب بإزعاج لهم. يأخذ يبحث عن مشروعية الآذان من ناحية فقهية، وقد يجد أنّ الآذان ليس فرضًا (مثلًا) بل هو سياسة شرعية لتنظيم شؤون الناس وإعلامهم بدخول وقت الصلاة. ومن هنا يتحوّل هذا الفرد لمُقاتِل شرس لإلغاء أو تخفيض صوت الآذان بدواعٍ فقهية. (هُنا انتقل الفرد من أزمة تسبّبت بها نظرة مُعلمَنة حسّاسة تجاه الأقلّيات، وأخذ يبحث عن تبرير فقهي، فجوهر مُنطلقه معكوس، مُعلمَن وليس كما يبدو فقهيًا، إنّه تأزّم أولًا ثُمّ أخذ يبحثُ عن مَخرَجٍ فقهيّ، وليس كـ مَن أقرّ مقولة الفقه من قبل أن يتأزّم).

 

مثال (2)

– تخترق العَلمَنة المقولات البَدهية واللاواعية للإنسان، فهو حينما يرى منظرًا طبيعيًا مُدهِشًا قد يقول Wow! بدلًا مِن “ما شاء الله” واختلاف العبارة التي خرجت تلقائيًا من فَمِ الفرد على بساطتها، إلّا أنّها تُشير إلى رؤية كامنة، ففي حالة قوله Wow! هُو يُحيل إلى فاعِل غير مُتعيّن، إذ المشهد جميل للغاية ومُدهِش، لا يهمّ كيف تشكّل أو مَن قام بتشكيله. أمّا في قوله “ما شاء الله” فهو يُحيل إلى الله البديع، الذي أحسن وأتقن صناعة المشهد الذي رآه. هكذا يصير استحضار الله كفاعل أساسيّ في المشهد اليوميّ مُقتضى ضروري للإيمان، (ولولا إذ دَخلتَ جنّتكَ قُلتَ ما شاء الله، لا قُوّة إلّا بالله).

 

مثال (3)

في المجالات المُعلمَنة: يبدو ما هُو أساسيّ وبديهي دينيًا، كـ إفراط بالتديّن وهذا ناتج عن حساسية مُفرطة تجاه كلّ ما هو دينيّ ومُقدّس

مثلًا تبدو صلاتك على النبيّ عند سماع إسمه، في أوساط أكاديمية مُعيّنة، كـ إفراط في التديّن والالتزام أو مثلًا: جرّب مثلًا أن تدخل على أحد المولات التجارية، وإحدى معارض الماركات وتحكي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وراقب ردّة الفعل.

ففي مِناخ عَلمانيّ تغدو أي مظاهر دينية مسألة مُثيرة للحَرَج، للوَهلة الأولى عالأقل، ومع وجود استثناءات، فقد يشعر كثير من الناس بالحرج من أن يتم وَصمُه بوصف ديني أو تديّني، ومن هنا يبدو المظهر واللباس الدينيّ في المُدُن ومُجمّعات الأعمال الحديثة والشركات، مظهرًا مُريبًا ورَجعيًا بعض الشيء، ويُصبِح من الصعب (وقد يبدو للبعض وَقِحًا) ممارسة طقس مثل الصلاة في الشارع وعلى العَلَن، بل في أماكن مُخصّصة للعبادة.

 

مثال (4)

– لا يُشكِّل الدين المقولة الأساسية التي ينطلق منها الفرد في حياته، ولهذا لا يجد تعارضًا بين سلوكه في الواقع وذهابه للمَعبَد. مثلًا لا يجد فرد مسيحيّ أو مُسلِم حَرَجًا في أن يتبنّى ميول شاذّة بالنسبة للدين، دون أن يتعارَض هذا مع قيامه بطقوس وعبادات نفس الدين الذي يُجرِّم ويُحرِّم فعله. (انظر لأغنية  Hozier -Take me to Church.. وكأنّه يقول: دَعكَ من ميولي أيّها القدير، إذا كان الأمرُ يتعلّق بالعبادة، فستجدني عابدًا مُخلِصًا وَفيًّا مثل الكلاب) وهذا حَل نابع في أساسه من رؤية مُعلمَنة تعتبر الدين شأن خاص يتعلّق بالعبادة فقط، وليس منظومة تُملِي عليّ سلوكي في الحياة وعلاقاتي مع نفسي ومع الآخرين. (هُنا نَلحَظ أنّ الدين يأتي لاحقًا، أي لا يُؤسّس شكل العلاقة عند الفرد، وإنّما يُبرّرها، أمّا ما يُؤسّس العلاقات فهو الواقع المُعلمَن)، وانظر في هذا على سبيل المثال الأسئلة المُوجّهة إلى موقع فتاوى إسلام ويب، التي يريد فيها السائل (و هُم كُثُر) ممارسة ما هُو مُقرّر حُرمته في الشريعة، من إتيان المرأة من غير ما أحلّ الله، ومن ممارسة أنماط جنسية حديثة من الإهانة والذلّ الذي لا يرضاه الإسلام ولا يعتبره شأن خاص حتى لو طلبه الشخص لنفسه.

 

مثال (5)

– تخضع المقولات الدينية لعقلنة تامّة في العصر العلمانيّ، أيّ أنّ الفَرد لا يُقدِم على أيّ فِعل دينيّ قبل أن يُحاول عقلنته وتفسيره عقلانيًا. وهُنا تخضع المقولات الدينية كالفتاوى مثلًا للتداول العام والشعبيّ، بعد أن كانت في الماضي حِكر على رجال الدين والعُلماء والفقهاء وهو ما قد يكون مفهومًا لأنّ تفكيك المقولات الدينية وتأويلها يحتاج عدد من الأدوات العِلمية. مثلًا يتمّ مُساءَلة مقولات دينية بدهية، إذ يتساءل الفرد: لماذا يحَرُم على المَرء الزِنا؟، إذا كان الأمر يتعلّق باختلاط النسل، فنحن سنستخدم موانع الحَمِل، مما يزيل الإشكال. أو لماذا موانع الحَمِل؟ لَم يَعُد هناك خوف من اختلاط النسل، ففحص الـ DNA سيُثبت نسب كلّ طفل، فتسقط وجاهة التحريم عنده. رغم أنّه ومن المعلوم أنّ المقولات الدينية الأخلاقية، أي تلكَ التي تُحدّد الحرام والحلال تقوم في جوهرها على عِلل محضة، مغزاها الطاعة، لا التفسير العِلميّ بالأضرار والمنافع. فالطاعة تسبق الفهم، إذ الحُكُم الشرعيّ يكتسب سُلطته من آمريته الإلهية وليس من تفسيره العقليّ. وهو في المقابِل يدعو للبحث عن حِكَم التحريم أو التحليل وإعمال العقل فيها.

 

مثال (6)

في العلمَنة تتضخّم “مسألة الأقلّيات”  بحيث تصير الأولوية للنقاش على الدوام باتجاه الأقلّيات، وعلى سبيل المثال والتطبيق: قد يهتمّ العالَم ويتابع يقلق ويتباكى على مَوت أحد الأكراد، دون أن يشعر بأي ذنب بإهمال وتجاهل موت عشر آلاف سُنّي، إذ الأخيرون أكثرية.

 هذا لا يعني أنّنا نُؤيّد ظلم الأقليات أو تهميشهم أو حرمان حقوقهم، لكن تمييزهم لكونهم أقلّية وإكسابهم حقوق تفوق غيرهم هو بحدّ ذاته تمييز، ويبدو أنّ الأساس التاريخيّ لهذه الحساسية يعني العالَم راجع لشعور العالَم بالذنب تجاه المسألة اليهودية خلال الحرب العالَمية.

ويُفسّر فاتيمو هذا الاهتمام بالأقلّيات والمواضيع الهامشية، باعتباره ردّ فعل على تفريغ القِيَم العُليا وعلى موت الإلهيّ، بالمُطالبة بقِيَم بديلة، بحيث تحلّ محلّ القِيَم السابقة، إذ لا ينبغي أن يبقى المُقدّس مكانًا فارِغًا، بل يجب مَلؤُه بقِيم وإن كان مُدنّسة أو تافهة، لكن تشغل حيّز المُقدّس الغائب. قِيَم، تبدو لِمَن يُنادون بها، أكثر حقيقية وواقعية، فهي ملموسة ودُنيوية، مثل المُطالبة بحقوق: الثقافات الهامشية، والثقافات الشعبية، المُقابلة لقِيَم الثقافات الغالبة، وكذا ردّ الاعتبار للمُنتجات الثقافية الخارجة عن السائد، فيشيع الترويج للمنتوجات الغريبة المَبنية على كسر القوانين الأدبية والفنية وتدميرها وتجاوزها.

 

مثال (7)

حساسية من الخطاب اليقيني. أو أي خطاب يُقرِّر حقيقة ما.. هذا الأمر ينطوي ضمنًا على عدد من الأفكار اللاواعية التي بثّتها ما بعد الحَدَاثة في أجيالها، وهي أنّه ليس هُناك ما يُسمّى حقيقة مُطلَقة، وأنّ الأمور نسبية، لا أحد يملك الحقيقة (مع هذا فأنا مُخوّل أن أُخبرَك بحقيقة: لا وجود اللحقائق المُطلَقة!!) وأنّه لا وجود لقِيَم أخلاقية موضوعية، وهي مُجرّد تقاليد ثقافية تختلف من حضارة لأخرى. وبالطبع هذا كلام فيه نظر وألف علامة استفهام وواقع الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا قد يُخبرنا بعكس هذا تمامًا، على أيّة حال. تتمّ مُهاجمة أي تغريدة أو عبارة تحتوي على خطاب يقيني، ويُهاجَم بعبارات من نَوع (ما بتقدر تحكي عنهم هيك؟ لا تعمّم؟ ليش بتحطّ حالك إله؟ كيف قرّرت؟ شو بعرفك؟) وهو شيء خليط من “الإرجاء” الحَدَاثي وشيء من عصاب مُعاصر مهجوس بفكرة أن لا نُقرّر حقيقة ما.

طبعًا قد يسأل سائل ما خطورة هذا الأمر؟ للأمر أبعاد كثيرة، أذكر ما اعتقد أهمّه وأخطره، وهو فقدان سؤال التغيير وفقدان الفاعلية البشرية، إذ كُلّ خيار ثوريّ وتغييريّ يجب أن يستند ويتّكِئ على حقيقية يقينية ما، وفي ظلّ خطابات لا يقينية، سيكون من الصعب إحداث أي تغيير جوهريّ في واقع العالَم، وستتراكم المشكلات بعضها فوق بعض.

 

مثال (8)

استتباعًا للمثالَين السابقين وبدمجهما سَويًا، ينتج حساسية عامّة من أي خطاب يُطلق أحكام وتعميماتJudgmental ، حتى لو كانت أحكام صحيحة وبدهية ويصير كلّ إنسان مضطر لتقديم بيان تفصيلي مع كل تغريدة يكتبها أو كلّ خطاب يُلقيه، يعتذر فيه عن كلّ فئة غير مقصودة، وكلّ فئة غير مذكورة، وكلّ فئة قد تظنّ أنّ الكلام مُوجّه لها، وعن أي سوء فهم قد يحصل، ويصير مهجوسًا بتصحيح الضمائر بحيث لا يقول كلمةً يؤاخذها عليه أيّ تيار أو أيّ أقلية، وهذا ما سيُعرَف لاحقًا باللباقة السياسية / الصوابية السياسية / الكياسَة السياسية / الأليَق سياسيًا / PC: Political Correctness وستجد أنّ حتّى هذه الصوابية السياسية تتغيّر من عام لآخر بحسب آخر تحديثات مُجتَمَعية وآخر حراكات، فهي أمر مرهون للمَناخ العام، وما كان مسموحًا في الأمس قد يصير ممنوعًا غدًا، وما كان ممنوعًا بالأمس قد يصير مسموحًا غدًا، ولعلّ هذا مَلمَح مُهِم في اضطراب العَقل البشري في التحسين والتقبيح، وملمَح مُهِم في تضارب الخبرة البشرية.

طبعًا واحد من أهمّ المُساءلات المُوجّهة لمثل هذه الهاجسية والجنون الخطابي، هو أن نُدرِك أن التواصل البشري واللغة بطبعها مَبنية على قدر من التواطؤات اللغوية الطبيعية، وتحويل التواصل لتحديدات تفصيلية وتعبيرات محايدة هو أمر يُفقِد الحِسّ البَشَريّ بداهته، وشاعريته، وذاتيته.. ولهذا أبعاد كثيرة يُمكِن الوقوف عليها.

وهكذا كما ترى، لا يُمكِن أن نفهم العَلمَنة دون أن نرصد التحوّلات التي تجري على مُستوى أنماط التديّن والتفكير الدينيّ، أو الوعي الديني في نفوق الأفراد، وفي المقابل لا يُمكِن أن نفهم أنماط التديّن اليوم بمعزِل عن العَلمَنة ذاتها.

 

تنامي أنماط التديّن الفَردي

 

من هُنا ونتيجة عوامل أُخرى مُركّبة تتعلّق بتحوّلات عالَمية وتاريخية بالبُنى الاجتماعية، وبالتزامن مع صعود الفَردانية كتكوين اجتماعيّ وفلسفيّ جديد، يشيع ظهور أنماط التديّن الفَردي على حساب التديّن الجماعيّ.

بحسب خوسيه كازانوفا فإنّ [حقّ الاختلاء والوحدة] كان الشرط الأهمّ لتحقّق الفردانية في العالَم الحديث، وقد أصبح حقّ مُلازِم لأنماط الحياة الحديثة.

يرتبط التديّن الفرديّ ونموّه بتصاعد النزعة الفرديّة في العالَم، ومع تصاعد مقولات النسبيّة الأخلاقيّة، ومع تعاظم الشعور بالخَواء الداخلي، وفقدان المركزيّة والاغتراب عن الذات. ويُمكِن ملاحظة فترة الثمانينات حيث لجأ العديد من رافضي الدين الجماعيّ والمُنظّم إلى مختلف أنواع الروحانيات مثل المسيحيّة، والبوذيّة والزِن  والشامانيّة. كل دين يظهر يتفكّك إلى رموز وسولكيات ومشاعر دينية يُعاد استخدامها في أُطُر أُخرى، فيُصبح قِطَعًا مُنفصلة ويطفو في الفضاء، وتتمثّل سمّات التديّن الفرديّ بالمُجمَل بالآتي:

  1. تديّن غير مُتمذهب ولا يتبع لجماعة أو حزب أو كنيسة مُحدّدة.
  2. يُعطي الأولوية للتجربة الشخصية والطريق الروحيّ الخاص للفرد.
  3. تديّن غايته الشعور بالذات وإيجاد المعنى وخلق هويّة ذاتية مُنسحبة من الواقع (تصوّف العِشق).
  4. تديّن يرتبط بالرُؤى الفردية، وبالتالي انتقائيّ للآراء الدينية وعابر للمَذاهب وينتقى الفتوى التي تناسبه.
  5. غالبًا ينطوي التديّن الفردي على التجربة الدينيّة الذاتيّة، وأفكار يصعُب التصريح بها، قد تخالف الفهم الكلاسيكي للدين.
  6. أحيانًا يتخذ التديّن الفرديّ صيغ فكرية منفصلة عن التطبيقات العَمَلية، تناقضات وفجوات بين ما يُؤمن به وما يفعله في الواقع.
  7. تديّن يُلائم الواقع، (بحسب الـ Trend) تديّن بحسب العَرض والطلب وقد كتب باتريك هايني المتخصّص بعلم الاجتماع الدينيّ كتابه (إسلام السوق) مُبيّنًا ذلك بالتفصيل.

 

ويُمكِن أن نضرب النماذج التالية كأمثلة على التديّن المهووس بالقِيَم الفَردية والقِيَم الإنسانوية:

 

  • تديّن [ دَع الخَلقَ للخالِق ]

     

     ويتمثّلها قَول الحلّاج:

     

    ما لي وللناس كم يلحونني سَفَهًا ،، ديني لنفسي ودينُ الناس للناس.

     

    يأتي هذا التديّن مَبنيًا على مُسلّمات ضمنية (أولًا: نسبية وسيولة أخلاقية) فأنتَ لا تملك أن تُحدِّد للناس ما هُو الصواب والخَطأ، ونحنُ لسنا آلهة ولا يجب أن نُنكر أي فعل على أي أحد. (ثانيًا: خصوصية الفرد والشأن الخاص) هَوس تفرضه قِيَم اللبرَلة في حماية الحُرّيات الفردية والتصرّفات الشخصية طالما صدرت بإرادة حُرّة. (ثالثًا: إرجاء النوايا) المُنطَلَق هُنا صحيح والتوظيف خاطئ، وهو أنّه لا ينبغي لنا أن نتهّم الناس، فنحنُ لا نعلَم نواياهم، طبعًا هذا الكلام يُوظّف توظيفًا خاطئًا، إذ السياق العام يحكم دائمًا على الفعل الخارجيّ لا النوايا، وهو منطقي في ذلك، ولذلك كانت القاعدة [ اتّقوا مواضع الشُبهات ] و [ من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن ] وقيل في الكوميديا الإلهية أنّ الجحيم مليئة بالنوايا الحَسَنة وأخيرًا [ التنازل عن مبدأ الأمر بالمعروف والنَهي عن المُنكَر ] كانوا لا يتناهون عن مُنكَرٍ يفعلونه… وهذا المَبدأ أهم مَبدأ مُجتَمعي في الإسلام، إنّه يَضمن ديمومة الأُمّة وبقائها وحمايتها من سُنّة الاستبدال، وهو ينطلق من فكرة أنّ المُسلِم يملك معيارًا للصواب والخطأ تقرّر عنده بالكتاب والسُنّة.

     

     

     

  • تديّن [ لا إمام سِوى العَقل ]

     

     

    عَقلَنة الدين من والمقولات الإيمانية واحدة من أهم النَزَعات التي تُحدِثها العَلمَنة لدى مُعتنقي الديانات، إنّه يُحاولون أن يروا الدين الذي يعتقدون كمطابق للعَقل، هذا الأمر فيه نَظَر، فلو كان الفهم العَقلي منوطًا وحدَه الذي يتعلّق عليه الدين لكان ذلك صحيحًا، إلّا أنّ جوهر الدين، الإيمان، وجوهر الإيمان، التصديق الغيبيّ، وجوهر التصديق الغيبي، أن تعزو ما ترى إلا ما لا ترى، وأن تُحيل ما يجري إلى ما يخفى، وأن تصبر على فعلٍ لتُجزى بداله في يومٍ غَيبيّ.

     

    على أنّ هذا لا يعني أنّ الدين لا يقوم على مقولات عقلانية، وهذا فرق كبير، بأنّ معظم الديانات تملك أدلّتها العقلية التي تُدلّل بها على صحّتها وتقوم بها وتقف عليها، وهذا أمر مُنفصِل عن عقلنة الدين، لأنّ المقصود بعقلنة الدين عقلنة سلوكياته وعباداته وإيجاد تفسير مُعاصِر لها، ولعلّ هذا الأمر فيه لبس.

     

    يكمن جوهر المُشكلة في أنّ الاتّباع هُنا يصير لاحق على الفهم العقليّ، وبمعنى أنّ المُتديّن لا يقبل بالمقولة الدينية حتى يفهمها عقلًا، ولو عجز عن فهمها فسيكفر بها، بدلًا من أن يتهّم عقله، هُنا يصير الإنسان عبدًا لعقله بطريقة أو بأُخرى، بدل أن يكون عبدًا لله أو الإله، وبدل أن أمتنع مثل عن الشرب وقوفًا لأنّ الوَحي والنهي النبويّ المنقول عن الإلهيّ قد قال بذلك، فأنا سأنتظر حتى عام 2018 حيث سيقوم مجموعة من العلماء بإجراء بحث علمي على أضرار الشرب وقوفًا، وحين أقتنع بالبحث سأتّبع مقولة الدين.

     

 

  • تديّن [ الحُبّ دينيّ وإيماني ]

     

    ويتمثّلها قول ابن عربي:

     

  • أدينُ بدين الحُبّ أنّى توجّهتْ ،، ركائبهُ فالحُبّ دينيّ وإيماني

     

     

    بحسب نصر حامد أبو زيد، حينما يشعر جيل ما بأزمة هُويّة فإنّ أحد الحلول المُتاحة أمامه أن يستحضر مقولات تصوّف العِشق، وتصوّف الحُب، وكلّ تصوّف مُخفّف التكاليف على طريقة روميّ والحلّاج، تصوّف لا يتطلّب إلزامات أخلاقية وتربية للذات، وكلّ ما يتطلبه شعور وجداني تجاه الإله بصيغ الحُب والعشق والحلول، والانسحاب من الواقع

     

    ويرتبط هذا النمط التديّني بالتأسيس للنزعة الإنسانية في الدين،التي تُزيح مركزية الإله، لصالح مركزية الإنسان، وتُزيح محورية الشريعة (الطريقة) لصالح محورية الغاية، أيّ أنّ “الطرق إلى الله تتعدّد بعدد الخلائق” بدل أن تكون شريعة واحدة، وهذا مرتبط بأفكار ذكرتها هنا من قبل، حول لا يقينية المعرفة ونسبية وسيولة ما بعد الحداثة، وتظهر مقولات “الصراطات المُستقيمة” بدل “الصراط المستقيم” والتعددية الدينية بدل الأديان المختلفة، بالإضافة لتأزيم المجتمعات تجاه طوائفها، حتى تشعر أنّ مشكلتها على الدوام كانت طائفية.

     

    ويذكر مُحيي الدين بن عربيّ، القول الآتي في فصوص الحِكَم: فص الحكمة النفسيّة في الكلمات اليونسيّة، قائلًا:

     

    “اعلَم أنّ الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة على الله. أراد داوود بنُيان بيت المقدس، فبناه مرارًا، فكلّما فرغ منه تهدّم، فشكا إلى الله، فأوحى الله إليه: إنّ بيتي هذا لا يقوم على يديّ من سفك الدماء،  فقال داوود: يا رب ! ألم يكن ذلك في سبيلك؟ فقال: بلى ! ولكنّم أليسوا عبادي؟”

 

نظرية العَلمَنة

 

ترجع لفظة »عَلمانيّ« Secular  إلى الكلمة اللاتينية saeculum وهي تُعبّر عن دلالة مُزدوجة تتعلّق بالزمان والمكان. فالزمان يُشير إلى “الآن” والمكان يُشير “هذا العالَم”، وبالتالي فهي تُشير بمُجملها إلى ما معناه “العصر الحاضر”.

وممّا يجب التنبيه إليه في هذا السياق هو التمييز بين العَلمَنة Secularization والعَلمَانية Secularism إذ العَلمَنة صيرورة تاريخية وتحوّل شامل على المستوى الاجتماعيّ والفلسفيّ والمَعرفيّ والتاريخيّ والسياسيّ، أمّا العَلمانية فهي آيدولوجيا سياسية ترى بضرورة فصل الدين عن أي تدخّل تشريعي بالسياسة والدولة. وفي التفرقة بينهم تفصيل طويل، لا عليكَ منه الآن، قد نأتي على ذكره في باقي المقالات لاحقًا.

 

أمّا فيما يتعلّق بالعَلمَنة كنظريّة، فإنّ ما جَرَت العادة على اعتباره نظرية عَلمَنة واحدة، يتألّف في الحقيقة من ثلاثة اقتراحات في غاية التبايّن والانفصال والتفكّك وتُدرَس كل منها بمَعزِل عن الآخر، وهي:

  • العَلمَنة، بمعنى تمايز النطاقات العَلمانية عن المؤسسات والمَعايير الدينية.
  • العَلمَنة، بمعنى أُفول المُعتَقَدات والمُمارسات الدينية.
  • العَلمَنة، بمعنى تهميش الدين وتحجيمه في نطاق مُخصخَص.

إذًا هُناك اتجاهان رئيسيان في نظرية العَلمَنة:

  • نظرية مبنيّة على الأصول الأيدولوجية في النقد التنويري للدين، التي ترى عملية التمايز الوظيفيّ تقود بشكل حتميّ لتآكل الدين واندثاره.

     

  • نظرية التمايُز الحديثة المُستَقِلّة ذاتيًا للنطاقين الزمني والديني، والتي لا تفترض الأفول الحتميّ للدين، وإنما تراجع وظيفته في المجال العام وخصخصته.

 

تبنّى دوركهايم وفايبر تكهُّنات حَولَ أُفول الدين وانحساره أمام غزو العالَم الحديث، وأنّه سيتراجَع دوره، ووظيفته، وتتغيّر طبيعته تدريجيًا وهكذا دواليك حتى يضمحِّل ويندثر الدين بالكامل.

أمّا نظرية العَلمَنة الوظيفية الجديدة، كما صاغها توماس لوكمان في كتابه “الدين غير المَرئي” فهي لم تفترِض الأُفول الحَتميّ للدين في المُجتمعات الحَديثة، وإنّما مُجرّد فُقدان الدين لوظائفه الاجتماعية العامة والتقليدية، وكذلك خصخصة الدين وحصره في نطاق خاص.

 

وهو ما ستصيغه عالمة الاجتماع الديني غريس دافي لاحقًا:

 

Believing without belonging الإيمان بدون انتماء

 

أمّا دلالات العَلمنة فيُمكن إجمالها بالآتي:

  • زوال وظيفة الدين في تحديد الرُؤى الكونية والجوانِب الثقافية للمُجتَمَع.
  • حصر الدين في مجال ضيق ومحصور جدًا بحيث لا يكون له أي أثر في المجال الاجتماعّي والسياسيّ.
  • العَلمَنة، مسار تاريخيّ لا رادَّ له، يتحرّر بمقتضاه المُجتمع والثقافة من وصاية الدين والأنساق الميتافيزيقية المُغلَقة.
  • التاريخ ليس إلّا سيرورة لتحقّق العَلمنة، والعلمَنة تطوّر تحرّري، وثمرتها النهائية النسبية التاريخيّة.
  •  

وأمّا أبعاد العَلمنة، فهي:

  • نزع القداسة عن الكون والوجود.
  • نزع القداسة عن القِيّم والأخلاق.
  • تجريد السياسية من القَداسة.
  • تعريف الدين بوصفه ظاهرة تاريخية و ثقافة مُجتمعيّة.

 

ويعني نزع القداسة عن الكون والوجود: تجريد الطبيعة والكون من مغزاه الروحيّ واعتباره مُجرّد شيء مادي خالي من أي معنى عُلويّ قُدسيّ. وتجريد الوجود من الإحالات الدينية الزائدة.

وأما نزع القداسة عن القِيّم، فيعني: أن يُنظَر إلى كُل إنتاج ثقافيّ وكل مُنظومة قِيّم على أنّها أمور مُؤقّتة ونسبية و وليدة ظرفها التاريخي وشرطها الاجتماعيّ، وعليه فهي جميعها أمور لا ينبغي التمسّك بها أو تطبيقها أو تعميمها.

ويُقصّد بتجريد السياسية من القّداسة، بإلغاء أي أساس أو مرجعية مُقدّسة في النفوذ السياسيّ والتشريعيّ ونظام السُلطة. وإقصاء أي حُكُم سياسيّ ذو توجّه دينيّ أو مرجعية دينية.