العَيش على الهامش: نصوص عن تجربة الحياة

BY: Administrator

(1)


كلّ شخص في هذا العالَم يُقاتِل أشباحًا خاصّة به…
هيه يا رجل !
أشباحُكَ كثيرة..

هُناك من يتمدّد أُفقيًا في الحياة، حيث الكَم أهم من النوع، وحيث العَدد أهم من الجودة أُفقيًا أي بشكل سطحي، على السطح، دون أن يغوص في الأعماق

وهُناك من يتمدّد عموديًا في الحياة، باتجاه العُمق، حيث التجارب قليلة لكنّها كثيفة، وحيث العلاقات قليلة ولكنّها متينة

حين نتمدّد أفقيًا فنحنُ نكتشف أكثر عدد ممكن من الخبرات والتجارب، هذا يعني على سبيل المثال، أن نعرف ناسًا كُثُر دون أن نختار منها صديقًا مُقرّبًا أو بتعبير جورج وسوف (أصحاب كتير، أحباب شوية).. هكذا قد تجد نفسَك تعرف الكثير من الناس دون أن يكون لكَ صديق واحد تبوح له بسرّك أو تخبره عن آلامِك.

في المقابل حينما نتمدّد عموديًا أو رأسيًا، ونُبحِر في العُمق، فنحنُ لا نختبر العديد من التجارب، لأنّ الغوص في كلّ تجربة سيحرمنا الوقت والجُهد لنُجرّب باقي التجارب، وهذا يعني على سبيل المثال، أنّنا لا نحبّ أن نتعرّف على ناس كُثُر، أمّا القلّة المعدودة ممَن نعرفهم، فعلاقتنا بهم كثيفة وعميقة ومتينة، وهذا يعني أنّنا نكون في معظم الأوقات لوحدنا ووحدنا، ولكن حينما نكون مع أحد الأشخاص القلّة المُقرّبين فإنّنا نكون معهم في أنقى صورنا وأكثف حضورنا.

لكل نمط بالطبع إيجابياته وسلبياته، والموازنة بين التمدّد الأفقيّ والتمدّد العموديّ، هو [فن الحياة] إن جاز لي الاختزال

وأقول أنّ لكلّ سبب إيجابياته وسلبياته بحسب الطريقة التي تميل إليها أرواحنا في التعاطي مع الحياة، شخصيًا أعيش وفق النمط الثاني (التمدّد الرأسي والغوص في العُمق) في معظم الأوقات، هذا الشيء بالطبع يحرمني العديد من الفُرَص الجديدة، والعديد من العلاقات التي قد تكون جيدة بصدق.

خطورة هذا النمط من العيش أنّني أفني نفسي فيما أُحبّ، أيّ أنّي لا أستطيع أن أدخل تجربة دون أن أحرق نفسي فيها، ولا أستطيع أن أخبر الحياة إلّا مُتلِفًا روحي ومستنزفًا نفسيّ.. هذا الشيء جيّد لا يعيبه شيء برأيي إلّا شيء واحد، أن تفني نفسك في شخصٍ خاطئ أو أن تفني تبذل طاقاتك في مكان خاطئ.

مثلنا نحنُ مَن يفنون أنفسهم، إمّا أن ينبتوا إذا صحّ المكان وصحّ الشخص وصحّ الزمان، وإمّا أن يحترقوا إذا أسأنا التقدير والاختيار، وعاقبة الاحتمال الأخير وخيمة، وخيمة للغاية.

“ قلبُكَ لَم يتعلّم أن يشعرَ يا رجل !
و لا أن يعيش في شعوره إلّا في حالة واحدة:
تحويل نفسه إلى جحيم ! ”

هذا يُذكّرنا أنّ العيش في وسط يحتلّه الآخرون هو حالة من [فنّ المسافات]

كيف نختلط دون أن نتأذّى، وكيف نقترب دون أن نؤذي، وكيف أضع بينّي وبين الخارج مسافة لحماية الذات من التشوّهات والعوالِق والرواسِب..

قال وتذكّر قولًا يُنسَب لعليّ بن أبي طالِب، يُرفَع للنبي الكريم، كيف لا يُرفَع وعليّ ربيب بيت النبوة (ربّما سمعه منه من هنا أو من هناك، يا حظّه.. أقول في نفسي):

أحبب حبيبكَ هونًا ما.. عسى أن يكونَ بغيضَك يومًا ما
وأبغض بغيضكَ هونًا ما.. عسى أن يكون حبيبكَ يومًا ما

هكذا إذًا، اترك مسافة، لا تحرق نفسَك تمام الحَرق، لا تصل الحدّ الأقصى في الشعور، وأبقِ لنفسكَ بِضعًا من نفسِك، عسى أن تحتاجه يومًا لترميم نفسِك.


لقد كُنتَ تحملُ نارَك، وأخشى أنّك الآن تحملُ رمادك

(2)

نُضجك، وتحوّلك لإنسان ناضج، هو قرار شخصيّ، واتخاذه بحدّ ذاته بداية النُضج

في مقولة ذكية لجورج برنارد شو، يقول فيها:

نحنُ لا نتوقّف عن اللَعِب لأنّنا كَبُرنا، نحنُ نَكبُر لأنّنا توقّفنا عن اللَعِب !

فكّر قليلًا في الجُملة السابقة…

الفَرق بين الجُملَتين، أنّ الأولى تُحيل النضج للزمن وللأيام وتجعل سببه مصدرًا غير مُتعيِّن (غير معروف) وقوى مجهولة

بينما تُحيل العبارة الأخيرة (نحنُ نكبر لأنّنا توقّفنا عن اللعب) أقول، تحيل هذه العبارة، النضج لقرارنا الشخصيّ بتوقّقنا عن اللَعِب

أيّ أننا ننضج بمُجرّد اتخاذنا للقرار الآتي: عليّ أن أتوقّف عن اللعب، يجب أن أنضج وأتخلّى عن هذه السلوكات !

وهكذا نرتقي بأنفسنا لمرحلة أعلى بالتعاطي مع الحياة.

“ أنت هو الوحيد الذي يستطيع بأن يُعلّمك أكثر مني ”

التعاطي مع الحياة، على أساس الخبرات هو بداية التفقّه بالحياة، كلّ تجربة سيئة أو جيدة، حزينة أو سعيدة، هي خبرة ذاتية تخصّك أنت وتجعلُ منك أنت

التفاعل مع الخبرات شيء طبيعي…

أن تغرق في حُزن لموت شخص عزيز أو رحيله هذا أمر مفهوم

أمّا أن تتجاوز المأساة وتُحوّلها لخبرة حياتية وتجربة انتقالية، هكذا تبدأ فنون العَيش

هكذا بالفعل، كُلّنا معرّضون ومَهزومون وقابلون للكسر، إلّا أن يتغمّدنا الله برحمته

نتعرّض للخسارات، للفقد، للفشل، للهزيمة، للخيانة..

بإمكانكَ أن تتحطّم وبإمكانكَ أن تسلكَ مسارات من العَدَمية والعبثية واللامبالاة، بإمكانك أن تُسحَق.. أن تلومَ نفسَك والآخرين، أن تلعنَ الحياة التي تستحقّ اللعن !

أو بإمكانكَ أن تُرمِّم تشقّقاتك، وأن تجبر كسرَك، وأن تُسعِف نفسَك، أن تتكّئ على صديق أو حبيب أو أن تلجأَ إلى حضن أمّك فتأوي إلى رُكنٍ شديد.

هكذا سَمَح لكَ بالحُزن، على أن لا يزيد عن ثلاثة أيّام.. إذا طال الحُزن مَكَث، وإذا مَكَث صار القلبُ فارغًا، وإذا استفرد الفراغُ في القَلب، أكلَ القلبُ نفسَه

قال الحكيم همنجواي ذات مرّة (ولا أدري إن كان يصلح أن نقتبس من رجلٍ أنهى حياتَه مُنتحرًا، أي حِكمَة عن الحياة):

بإمكانك أن تُحطِّم إنسانًا، دون أن تهزمه
ليس بإمكانكَ أن تهزم الإنسان، إلّا إذا قرّر هو ذلك !

أن تتعلّم من أخطائك، هفواتِك… أن تغفر لنفسك.. أن تتودّد لغيرِك.. أن تسعى لإنقاذ نفسك، تغيير ظروفك، أن تقاتل من أجل الشخص الذي تُريد

لكلّ شخص في هذا العالَم أشباحه الخاصة، وأشباحك وطريقة تعاطيكَ معها، هو ما يُميِّزكَ ذاتيًا، ويجعلك مُتفرِّدًا

ذاكرتك، على مستوى الشخوص، المواقف، الخبرات، الأفكار، العلاقات… هي أنت، ولذا مَن ينسى يتوه، ومن تاه، لا يصل !

لا يجب أن تنسى، افهم هذا جيدًا، حين تنسى، تصير ألعوبة بأيدي الآخرين

“ عندما يفقد أحد ماضيه تمامًا ، تستطيع أن تصنع بمستقبله ما تشاء ”

ليست الحياة فرض مفروض، تعيش يومَك لتقضيه، وليأتِ اليوم الذي بعدَه، وإن كان بإمكانك أن تتعامل معها على هذا الأساس، ومن ثمّ تفقد فن التعاطي معها، وتجد نفسك مدفوعًا قسرًا وجبرًا وبلا أي حيلة، كدُمية مسرحية، تؤدّي دورها ثُمّ تموت.

أنتَ، ذاكرتك، تجاربك، خبراتك…

تجاربي مَعبَدي ومَعبَدي مُقدّّس

وبإمكانكَ أن تفهم الأمر كيف تشاء.. أن تعيشَ مُسالِمًا على الهامش أو مُقاتلًا في قلب العالَم أو مُذبذبًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء

الصلاة عند كازنتزاكيس، علاقة مُحارِب في الحياة مع ربّه، كلّ صلاة هي تقرير يوميّ نُقدِّمه للرَبّ:


يا ربّ !
هذا ما لديّ..
هذا ما يُواجهني !
هذا ما سأفعل..
هكذا سأقاتل..
فأعنّي وأعطِني القُوّة لذلك

هكذا إذًا..

آن الأوان لتحترمَ الشخص الذي يقف أمامكَ في المرآة،

قال المُعلِّم ذات مرّة.

 

(3)


نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ  ” – حديث شريف

مغبون، غارقٌ فيها، يعيشها ولا يُدركها، ويشربها دون أن يرتوي

“ هناك من يتعود على الأشياء إلى حد نسيان وجودها ”

يا لقوّة الفراغ، كنت أقول في نفسي، الفراغ أساس كلّ فعل مُدمِّر وأساس كُلّ فعل خلّاق، بحسب الطريقة التي نستثمره بها

غالبًا ومن المُلاحَظ أنّ الناس حينما لا تشغلهم الأفكار، ينشغلون ببعضهم بعضًا، وهكذا يحلّ الآخرون كمادة للنقاش بدلًا من الأفكار..

ويتسبّب الفراغ في خلق الفضول، والفضول حاصل حاصل، فهو إن لم يتمدّد في عوالِم الأفكار، سيتمدد في عوالِم الأشخاص وسلوكياتهم وخصوصياتهم

وعادًة ما يُحوِّل الفراغ، الأشخاص.. إلى أدوات استنزاف للآخرين

فيخوضون معهم جدالات وتدخّلات بدافع إيجاد تفاعل في حياته (أو شيء يتحدث به)

ومن المُلاحظ كذلك، أنّك كلّما اتجهت للأوساط الفارغة تكثر أنماط التفشّش بالآخرين واستنزافهم والاستهزاء بهم وبخصوصياتهم أو تصرّفاتهم أو مظهرهم

ومِن الحِكمة، أن لا تستنزف نفسَك وطاقتك في معارِك صغيرة ويومية

ومَن لا يفهم ما تقوم به، غالبًا ما سَيُجنِّب عقله عناء الفهم، فيقوم بتصنيفك لأقرب عدد صحيح يفهمه في ذهنه (متفلسف، مثقف، ملحد، متديّن)، مُجرّد مقولة جاهزة مثل المُعلّبات تعينه على تصنيف ما لا يفهم في قوالب في رأسه فقط.

والعقل الفارغ، عقل طفولي وإن كان صاحبه كبيرًا في العُمر فهو لا يستطيع أن يتقبّل شخص مشغول عنه بشيء لا يفهمه ولذا فهو يزعجه ويستفزه لكي ينتبه

والبعض غالبًا ما يقتات على تفاصيل الآخرين وخصوصياتهم، ولذا قد يعتبرك العقل الطفولي فظًّا إذا كنت ترسِم الحدود من حولك

وأحكمُ الناس، مَن يستطيع أن يَحمي عزلته وأن يرسِم الحدود دون أن يخسر مَن حوله

ولذا ذكر الإمام أحمد بن عجيبة -رحمه الله-:
العُزلة عن الناس.. عزلة الضعفاء، والعُزلة بين الناس.. عُزلة الأقوياء

الجهل أساس التبعية، وأساس الإمّعية: الإنسان الفارغ، فارغ التصوّرات.. فارغ العقل.. فارغ الأفكار.. بلا مبادئ، وبلا مواقف ومُتقلِّب ومُنافِق

وأختم بما قاله حسين من قَبل:

الفراغ خطير

ميّز بين الذهن ومُحتواه…

مِن طبيعة الذهن أن يكونَ فارِغًا

ومن طبيعة الفراغ أن يكون قابلًا لأن تَصُبّ فيه أي رأي أو نظرية أو مذهب أو معرفة أو شعور أو ذكريات