ما وراء الصواب والخطأ: التسامي الأخلاقي
ينقل الماورديّ في كتابه اللطيف أدب الدُنيا والدين، تعبير جميل حول المُروءة، يقول:
[العقل] يأمُركَ بالأنفع، و [المُروءة] تأمُركَ بالأجمل.
هذه عبارة ذكية ودقيقة، فالأنفع ليس دائمًا الأجمل، والصواب المُجرّد قد يتغطّى بقالب الُلؤم والجشع والصِبيانية.
مثلًا قد تكون صاحِبَ حقٍّ (في قضية غير مصيريّة)، لكنّك قد تبدو لئيمًا إذا ما تمّسكت به، دون أن تُقدِم على تنازلات جميلة (غني عن الذكر: أنّ التنازلات تأتي من مُنطلَق قُوة لا منطلق هزيمة).
هُناك مَعارِك لا يربح فيها أحد. وهُناك معارك الجميع فيها خاسر، تلك هي معارك الاستنزاف.
وهُناك معارك انتصار الآخر فيها لا يعني خسارتي، ذلك أنّها معركة لم أرضَها لنفسي.
بعض المعارك خسيسة ودنيئة، لم تَصِل إلى ساحتها بمحضِ قُوّتكَ وإرادتك، إنّما وَجدتَ نفسكَ مدفوعًا إليها، وهذه ينطبقُ عليها وصف تميم: بعضُ المعاركِ في خُسرانها شَرَفٌ.
وهكذا قد تقف في صَفٍّ طويل فيأتي دَورُك، فتُتيح المَجال لرجل كبير في السِنّ، أو امرأة للتقدّم أمامك، أو بأخذ دورك. من ناحية الحقّ المُجرّد، أنتَ صاحب الحَقّ، ولا يحقّ لأحد مُساءلتك إن لَم تتخلّ عنه.
أمّا الذوقُ فشَيءٌ ليسَ في الكُتُبِ، فهو إن لم ينبع من وجدان المَرء وقلبه، فلا تبرير عقليّ ينفع ولا تفسير منطقي يُجدي.
ولهذا قد تبدو تافهًا أو تُسبِّب لنفسكَ إحراجًا حينما تُحاول أن تشرح الذوقَ لشخصٍ لا يعرفُ الذَوق. إنّنا حينما نُسائِلُ البديهيات والذوقيات لمَن يُنكرها نبدو كسُذّج وحَمقى.
قبل فترة توقّفت على فتوى بسيطة، يسأل السائل، ما إذا كان بإمكانه السفر لحصوله على عقد عمل جيد، ويذكر أنّه وحيد والديه، وقد سألهم وهُم لا يمانعون…
الإجابة الشرعية بأن لا بأس بسفره، أي أنّ فعله مُباح لكنّ المُفتي عقّب وبلغة عامية رقيقة: الأحلى والأزكى أن تبقى…أن تبقى إلى جانب والديك إن كان لديك وظيفة حيث هُم يقيمون.
إذًا هُناك حُكم شَرعيّ أساسيّ لهذه المسألة: وهو أنّ فعله “مُباح”، وهو إن فعله فهو غير آثم ولا مُلام،
من منطلق أبعد.. تتبدّى الأبعاد الذوقية، إذ هُناك ما هو أسمى من الصواب والخطأ وهو الأجمل والأحلى والأزكى، الأرقى والأنقى، ما هُو أكثر رحمة وأكثر لُطفًا.
وأذكر أنّي قرأت لمُنير فاشه ملاحظة مماثلة، إذ يقول ما معناه:
وفق منطق أرسطو، كلّ عبارة، هي عبارة إمّا صائبة أو خاطئة،
أمّا جلال الدين الروميّ فقد ذهب إلى أبعد من ذلك حينما قال:
وراء الصواب والخطأ… يُوجَد فُسحة
لنَلتقِ هُناك