ما الذي يجعلنا بَشَرًا؟ – عَن المَوت والفقد والرحيل
Be right back, واحدة من الحلقات الذكية الأخرى في مسلسل بلاك ميرور والتي تُسائل سؤال فلسفيّ مهم جدًا: ما الذي يجعل من الإنسان إنسانًا؟ وهل يمكن أن نصنع تقنيًا كائن مُطابق للوجود الإنسانيّ؟
تبدأ القصّة بمارثا، التي يخبرها صديقها وشريك حياتها بأنّه سيخرج وأنّه سيعود بعد الانتهاء من مشواره Be right back ..لكن ما يحدث لاحقًا هو أنّ شريكها يتعرّض لحادث عنيف، ما يؤدي لموته، وهكذا بلا عودة، يخرج فلا يعود، وهُنا تبدأ أحداث القصّة
تدخل مارثا حالة حزن لفقدها، كأيّ إنسان آخر وتقترح عليها إحدى الصديقات أن تُجرّب إحدى التقنيات العصرية التي ستساعدها على الخروج من أزمتها..
وهي تقنية، تمكّن الشركة من استجماع معلومات الشخص المتوفّى من خلال حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي وبالتالي خلق شخصية مطابقة للمُتوفّى
وتقوم الشركة بصناعة إنسان من مُكوّنات عضوية، مُطابقة لأبعاد وصفات وتفاصيل المُتوفّى من خلال صوره،
ومن خلال القيام بتجميع العديد من المعلومات حوله من خلال حساباته، يتشكّل لدى الشركة قاعدة بيانات يمكنها التنبّؤ بسلوكات وميولاته ورغباته
وهكذا يتمّ إدخال شخصيته ضمن هذا “الآلي، العضويّ” الذي لا يبدو إلّا كإنسان حقيقيّ.
في البداية ترفض مارثا الفكرة، تستهجنها استهجان تام، فكرة أن يحلّ بديل وهمي عن عشيقها المُتوفّى !
لكن ما العمل؟ إذا كُنّا كائنات هشّة، نتحطّم بالفقد ولا نستطيع أن نتحمّل رحيل أولئك الذين أحببنا وأحبّونا..
ما العمل إذا كُنّا نشعر بوحدة وجودية، لا يؤنسها إلّا حبيب أو رفيق شاركناه أدّق التفاصيل!
يُقال أنّ أسئلتنا الوجودية جميعها ظهرت حينما أرادَ أوّل إنسان ليوقظ إنسان آخر، كما كان يفعل دائمًا.. لكنّه في هذه المرّة لَم يستيقظ ولم يفزع مُتحرِّكًا !
هكذا دخل الإنسان معتركه الوجوديّ من الأسئلة، إنّه لم يفهم لماذا لم يُعاود الاستيقاظ؟ ولَم يفهم إلى أين ذهب في غيبوبته هذه ؟ ولماذا لَم يَعد يستجيب لأصواتنا ولمساتنا؟
(ينهج ابن طفيل في حي بن يقظان مسلك مماثل في قصّته)
الحقيقة التي لا يُمكن إنكارها أنّ الوجود مُوحِش، مُوحِش للغاية إذا ما أردنا أن نُواجهه فرادى ولوحدنا وبأنفسنا !
يأنس الإنسان بوجود إنسان آخر يشاركه تفاصيل حياته، ويخبر ما يخبر من خبراته
إنسان آخر يربت على كتفنا حينما نصاب بالخيبة
ويرعانا حين نسقط لمرض أو وعكة صحّية
ويهتمّ بنا بسبب أو بدون سبب
يلحظ وجودنا ويشعر بما نشعر
أمّا الموت فهو أساس جميع القلق البشري، وتساؤلاته
حتى أنّ الفيلسوف الفرنسيّ، لوك فيري (وهو وزير سابق للتعليم بالمناسبة) يعزو كلّ الفلسفة لسؤال الموت!
وهو محور أساس للفلسفة الرواقية إذ رأى أبيقور أنّ الفلسفة ما هي إلّا سعي لإفهامنا الموت ويقول مونتين التفلسف هو تعلّم الموت
هكذا إذًا ترضى مارثا ببديل هي تعرف أنّه وهمي عن شريك حياتها !
لا لشيء وإنّما لأنّنا حين نُحبّ، نرضى بأي أثر من المحبوب نريد أي ذكرى، صورة، رائحة، قلادة، رسالة، محادثة !
إنّنا لا نتقبّل فكرة أن يرحل الآخرون !
ولهذا نحتفظ بكلّ أشكال وجودهم ونعيش على ذكراهم وعلى أثرهم..
ألم يمشي عبدالله ابن عمر، يطوف بالمدينة وأزّقتها
قيل: ماذا تفعل يا عبدالله؟
قال: لعلّ خُفًّا يقع على خُفّ (لعلّ قدمًا تقع على قدم)
أي لعلّ مَوضع خُفّي يأتي على مكان مرّ منه رسول الله
وتُشير الدراسات الأنثروبولوجية (التطوّريّة) أنّ حتى أقدم الأسلاف البشرية، والتي لم يتشكّل لديها أي وعي مُتقدّم
لقد كانت تضع النباتات على أماكن دفنها للمُتوفّى
وتجلس حزينة تتأمّل دون أن تفهم وتبكي دون أن تأمل
وتنقش أثر المفقودين على جدران الكهوف
وكأنّها تقول: كانوا هُنا، كان لهم وجود، لم يكونوا كذبة !
أي خلاص تعدنا به الأديان، والفلسفات؟ أي مكافأة أجمل من تلك التي تقول لنا أنّ مَن نُحبّ يتنعمون في مكان آخر، وأنّنا سنلتقي بهم!
أي أمل يعيننا على تقبّل فكرة الفناء سوى أنّ هذا الفناء سيكون مَعبرًا لنا لكي نلقى من أحببنا ورحلوا عنّا ؟
موت من نُحبّ له دلالة مزدوجة:
أنّهم رحلوا عنّا، وهذا أوّل بؤس وأول فاجعة
وأنّنا سنُكمل هذا الوجود بدونهم، وهذه خيبتنا الثانية، التي لا عزاء لها !
إنّنا نتحمّل أن يؤذينا المُقرّبين أن يُؤذينا من نُحبّ
لكنّا لا نحتمل أن يتركونا في هذا الوجود لوحدنا..
تستحضرني فرقة ميامي حين تقول:
فرّحني يوم .. واجرحني يوم .. بس لا تغيب !
أن يكون الآخرون في حياتنا فحسب، هذا كلّ ما نريده !
أن يؤذونا وأن نؤذيهم، هذا أمر لاحق مُحتَمَل !
أن نفرحهم وأن نبكيهم، كلّها قضايا لاحقة وسيبقى حضورهم أهمّ من أي شيء آخر !
وكنت قد ذكرت من قبل أغنية Photograph, Ed Sheeran حين يصف الحُبّ، كمجموعة من الذكريات والتفاصيل التي لا يزعزها بعض الإيذاء وستخدمنا أي أغنية في هذا السياق بالطبع
And if you hurt me
Well, that’s okay baby,
ويخبرنا الفيلسوف جبريل مارسيل، أنّ الحُبّ ما هو إلّا قوة فوقية تتحدّى كل غياب..
إنّنا لا نستطيع أن نُفكّر أو أن نتخيّل أنّ من نُحبّ.. يُمكن أن يتسحيل إلى فكرة أو شيء غائب لأنّه حينما أُفكّر فيكِ أنتِ ستمثلين أمامي فأنتِ لا تغيبين
قد ترحلين، لكنّك لا تفنين ولا تتحوّلين إلى عدم
وسُيقدِّم لنا لاحقًا مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، مشروعًا للخروج من هذه الأزمة
مثل أن يُقدِّم أندريه كوميت سبونفيل ولوك فيري مُرافعة فلسفية عن [فن التخلّي] و فلسفة اللا-تعلّق كمشروع فلسفي خلاصي، للخروج من هذا الوجود بأقل الأضرار النفسية والخسائر الوجودية
استكمالًا للقصّة..
تعيش مارثا مع الشخصية الوهمية (التي تؤدّي وظائفها الحيوية بشكل ممتاز كالجنس مثلًا) تقتنع إلى حدّ ما، ثُمّ بعد فترة تعاود التقزّز منه ومن حقيقة كونه وهمًا
إلى أن تصل مرحلة ترفضه فيها، لأنّها لا تزال تعرف في قرارة نفسها أنّه ليس هو (ليس حقيقيًا)… إنّه هو وليس هو وهذا ما يطرح السؤال الفلسفيّ عن ماهية الإنسان !
ما الذي يجعل منّي أنا أنا؟
إذا كنت تحضر محاضرة مثلًا بحضورك الكامل
ثُم بعد أيام تعرضت لحادث وتمّ بتر جزء من أجزائك !
لن يكون حضورك المحاضرة بعد البتر حضور هُويّاتي أقل (وإنما فقد جسدي مادي)
(بالمناسبة يشعر معظم الأشخاص الذين يتعرّضون للبتر بوجود أعضائهم المبتورة)
هذا السؤال يفتح أسئلة وملفات فلسفية كُبرى، يُمكن لي أن أُجملها بالآتي:
– سؤال الهُوية
– سؤال الذات
– سؤال الوعي
– سؤال الحُريّة
– سؤال الإرادة الحُرّة
– فلسفة العقل والمعرفة والإدراك
– فلسفة الذاكرة والسلوك
وأريد باختصار أن أتعرّض لأهمّ الملامح الفلسفية التي جعلت مارثا تحديدًا ترفض وجود شريكها الوهمي وهي فيما اعتقد، كالآتي:
– [التفكير الخلّاق أو الإبداعيّ]– [طوعيته، أو فقدانه للإرادة الحُرّة، والحاجة لتلقّي الأوامر]– [الذاكرة المعلوماتية]– [اللا خطأ، أو عدم الخروج عن الطور، أو التمرّد]
أولًا، مسألة التفكير وهذا بالطبع يُعيد سؤال آلان تورينغ حول التفكير والآلة
هكذا يسأل آلان تورينغ، سؤاله الأبرز الذي سيصير لاحقًا معيارًا للذكاء الاصطناعيّ المُعقّد والمُتقدِّم..
يقترح تورينغ الآتي، ما المعيار الذي يجعلنا نقول أن الآلة الفُلانية تملك ذكاءً مُركّبًا؟
والإجابة باختصار: إذا استطاعت خداعنا !
ويقترح التجربة الآتية، أن نضع بشرًا وآليًا من وراء حجاب، ونسألهم سؤالًا، إذا لَم نستطع تمييز إجابة الآلة، فستكون آلة ذكية، بإمكانها خداعنا (كأن تستخدم في إجابتها سخرية، نكتة أو أن تتقصّد أن تجهل السؤال رغم معرفتها إيّاه، وهكذا دواليك !
إذًا لا يكفي الرصيد المعلوماتي للشخص لمطابقة نظام تفكيره
سنحتاج لتفكير خلّاق بحيث يستطيع التفكير فيما لم يُفكّر فيه من قبل (أي لا يستند للرصيد المعلوماتي السابق) وسيكون مُخيف جدًا حينما تستطيع الآلة الكذب علينا
ثانيًا، الإرادة الحُرّة لهذا الوجود الوهميّ، إنّه لا يعي ذاته وهذا مدخل أساس في قدرته على التفكير بحُريّة
أن يُمايز وجوده الذاتي المُنفصل عن الوجود الخارجيّ إنّه عبارة عن آلة تنفيذ للأوامر، تتعامل مع مُدخلات ومُخرجات (إذا قيل كذا تفاعل بالسلوك الآتي أو القول التالي)
ثالثًا، الذاكرة في التصوّر التقنّي مُجرّد معلومات وهذا الشيء غير دقيق فلسفيًا
ليست الذاكرة معلومة، وقد تكون خبرة مُعاشة لا يُمكن ترميزها معلوماتيًا
ولذلك لا نجده يحنّ (والحنين بحد ذاته سيكون مسألة مُعقّدة لأنّها عشوائية)
ولا نجده يقوم فجأةً أو يُغيّر مساره ليفتح ألبوم صورٍ قديمة يتأمّلها (إلا بأمر مُدخَل مسبقًا)
والذاكرة، والذات والهُوية، للآن لا يُمكن الممايزة بين حدودهم، أو تكميم أثرهم على بعضهم في التداخل
ولكلّ منها خصائص جد غريبة مثلًا تمتلك الذاكرة قدرة تقفّزية تتجاوز التراتب الزمنيّ
(بحيث قد تستحضر مشهد أو فكرة أو شخص، بدون سبب أو مُثير، من عشر سنين، تستيقظ وتجد نفسك تفكّر فيه)
أخيرًا، أنّه لا يُخطئ، وبحاجة لفهم كثيف وُموسّع عن فلسفة الخطأ !
والأمر ليست فقط بالأخطاء العشوائية، إنّما يتطلّب خوارزمية مُعقّدة عن متى نُخطئ، وكيف لا يكون خَطَؤُنا في الموقف الفلاني قاتلًا أو مُهلكًا أي فلسفة الغباء
وفلسفة النسيان، وفلسفة الخطأ ويشمل الخروج عن المألوف والانفعال، التمرّد، واختيار العنف في لحظة ما، وهذا بطبعه سيتطلّب إرادة حُرّة
ليتَ الذينَ نُحبّهم لا يرحلون، ولكنّه قدرنا ومصيرنا نحن الفانون !