عَمّان: هُويّة السُكّان وتشويه العمران

BY: Administrator

[ المكان والهُويّة ]

من المُلفِت للنظر أنّ الترميز العمراني للعاصمة عَمّان غالبًا ما يتمّ عبر رسومات لجسر عبدون وفندق الرويال وبضعة أعمدة حجرية رومانية، وهذا وإن كان يدلُّ على الجمع بين الأصالة والمُعاصِرة، فهو تقريبًا ينطوي على تناقض جوهري في تحديد هُويّة المكان، إذ أين تذهب السنين والحِقَب التاريخية بين الحضارة الرومانية والسنين الأخيرة التي بُني فيها فندق الرويال وأُنشئ فيها جسر عبدون؟ التي هي بدورها معالِم حديثة للغاية. أمّ أنّها حِقَب مُفرَغة من أي فعل تمدينيّ وأي تخليق هُويّاتي.

هكذا تكون المدينة المُفرَغة من أي رصيد تاريخيّ، قابلة للتشويه ومَرِنة لإعادة التشكيل ، طالما أنّها لا تملك هُويّة واضحة سوى كُتَل إسمنتية هنا وهناك، وبعضًا من المُنشآت الهندسية الوظيفية (أنفاق وجسور). هذا ليسَ عيبًا يتحمّله السُكّان ابتداءً، إذ السُلطَة للآن لم تستطع أن تتبنّى مقولات هُويّاتية واضحة، سوى شعارات لا تستند لأيّ جذور عميقة. لكنّه خطأ يتحمّله السُكّان انتهاءً باعتبارهم شعبًا لم يستطع للآن أن يختار هُويّة تُمثّله ولا سُلطة تطابق تمثّلاته الهُويّاتية.

أتذكّر هُنا وهيب الشاعر في كتابه “الأردن إلى أين؟” حيث اعتبر أنّ أولى القضايا الأردنية المُعلّقة، هي قضية الهُويّة الوطنية، والتي ما زالت للآن هُويّة غير واضحة المعالِم، وغير مُتجذّرة وغير مُتمايزة بسبب حداثية الكيانية الأردنية، وطبعًا يضع اعتبارًا للمُساهمات الجغرافية والبيئية والتاريخية لمنطقة الأردن، التي حالت دون تعميق وتحديد هُويّتها.

بالطبع أتفهّم أنّ العديد من المُدُن اليوم تُعيد ترميز نفسها بما آلت إليه من تمثّلات معمارية مُتقدِّمة (جسور مُعلّقة، أبراج مُرتفعة..) إلّا أنّ هذا الاحتفاء ما بعد الحداثيّ، يُعبِّر بصورة ما عن البُؤس الرمزيّ للعمارة الراهنة، وعن تشظّي الترميز الهُويّاتي.

إنّ العمارة = لُغة، والتجسيد العمراني = خطاب، بحسب رولان بارت، فعلينا إذًا أن نسعى لأنّ نفهم ما تُحاول أن تقوله لنا عمّان وغيرها من المُدُن !

من هنا يأتي القول بأهمّية النظر في لا تجانس عمّان كمدينة، ولا سيما وأنّ فوضوية وتعدّدية أشكال العمران في المدينة الواحدة، قد يُعبِّر عن انفصام حادّ في الهُويّة المَدينية، بحسب جانكس، المُؤرِّخ الرئيسيّ لحركة ما بعد الحداثة.

[الفساد وتشويه المكان وسَحق الطبقات الاجتماعية]

يتم تشويه المكان وهُويّته، حينما يجري المسؤولون والوزراء خلف مصالحهم وخلف رأس المال، وحينما يطمعون بكلّ استثمار وآخر بصرف النظر عن موقعه بالنسبة لثقافة المُجتمع الأردني وهُويّته. إنّ أي تصرّف معماري بالمكان بحسب آلدو روسّي، يجب أن ينسجم مع ثقافة السُكّان ويُعبّر عن ذاكرة الجماعة بطريقة أو بأُخرى، وإلّا ستتحوّل المدينة لفضاء مُوحِش وغير مُتجانس (وهو أمر له أبعاد خطيرة على المُستوى النفسي والاجتماعيّ).

لقد تمّ مسح رقعة كبيرة من منطقة العبدليّ، التي هي منطقة شعبية هامّة ومركزية في قلب عمّان، وتمّ استبدالها بمشروع البوليفارد (والذي لا شكّ له محاسنه وجمالياته الخاصّة به)، وهُنا لا أتحدّث عن إيجابيات وسلبيات هذا المشروع، بقدر ما أحاول الإشارة إلى أنّ عملية الاستبدال هذه، تُعبِّر عن إعادة تشكيل لهُويّة المكان ووظيفة زُوّاره. وهو تدمير للماضي لصالح المُستقبل، وتدمير للقديم لصالح الجديد، وهو ما يصطلح عليه ديفيد هارفي بـ “التدمير الخلّاق” الذي هو في جوهره اتجاه نيوليبراليّ مدفوع بالطمع بإنفاذ الاستثمارات ورأس المال، على حساب هُويّة المكان وأهله. وناهيك عن كون هذه الاستثمارات تأتي كعملية “بَرجْوَزَة” إن صحّ صكّي للمصطلح، بحيث يتمّ تحويل مكان عام ومتاح للجميع، إلى مكان لا تستطيع سوى الطبقة البرجوازية ارتياده والانتفاع به.

كما أنّها جُزء من نزعات جشعة تحاول أن تستغلّ كُلّ ما يُمكن استغلاله، ومن هنا وبحسب “إيلي حدّاد” تنسحب السيطرة على الفضاء المدني باتجاه عموديّ وليس أُفقيًا فقط، وتشيع مشاريع ناطحات السحاب والأبنية العالية كعمليات اغتصاب للأُفق الجَوّي، تحجب السماء والشمس وتسدّ الأُفق.

يتمّ تشويه المدينة بأعمال البُنى التحتية لصالح شركات المقاولات، مثلًا يتم تزفيت الشارع اليوم بزفتة جديدة، ثم تبدأ أعمال الحفريات للصرف الصحّي في نفس الشارع بعد ثلاثة أيّام فقط، هذا يحدث بالفعل، وهكذا تستباح عمّان، وتُغتصَب الشوارع تحت مُسمّى “مشاريع البُنى التحتية” دون حسيب أو رقيب، وكأنّنا نعيش كلّ يوم بيومه.

أسوق هذا كُلّه للتأكيد على غياب أيّ عناية أو حرص من قِبَل السادة والمسؤولين، إنّهم لا يهتمون بما يجري، ولا يعنيهم ما يجري، ولا يخافون ممّا سيجري. ولأنّ تشويه المكان جُزء من تشويه الذات، فإنّ الدافع لحفظ التُراث – كما يُخبرنا روبرت هويسون بذلك- هو جزء من الدافع لحفظ الذات والهُويّة، فمن دون معرفة ما كُنّا عليه، يصعُب علينا معرفة إلى أين نحنُ ذاهبون. الماضي هو أساس الهُويّة الفردية والجماعية.

ومن جهة أخرى، تُفتَح أبواب الاستثمارات لصالح الشركات الأجنبية على مِصراعَيها، دون أيّ اعتبار لأثر هذه الاستثمارات على المشاريع المحلّية والصغيرة. وعلى سبيل المثال: إذا فتح كارفور أو أي سوق تجاري أجنبي آخر -بعد عشرين سنة- أفرعه في كلّ حَيّ، فما الذي سيحصل لأبواب الرزق البسيطة للسُكّان المَحلِّيين ؟ (شخصيًا أحُاول دائمًا شراء ما يُمكِن شراؤه من المحال الصغيرة والبقّالات، كمحاولة أخلاقية لدعمها واستدامتها بدلًا من الأسواق التي يعود فيها الربح لمُستثمرين أجنبيين)

وهكذا تُطحَن طبقة اجتماعية كاملة، في ظِلّ نظام يُدير البلاد لا أقول بعقيدة نيوليبرالية، بقدر ما هي اعتباطية لصالح كلّ ما هو مُربِح ومفيد على المستوى الشخصي لصُنّاع القرار. وسَحق العديد من العائلات، أمر في نظرهم لا بأس به، إذ لُكلّ خطوة، أضرار هامشية لا بُدّ منها، وهذه إحداها.

وهنا يتكشّف زَيف صُنّاع القرار الذي يقطرون وطنية، وينظّرون عن الوطنية لمن هُم دُونهم، ويتحدّثون عن أحقّيتهم كأبناء البلد في أن يكونوا سادة، وإن لم يكونوا على درجة من الأهلية، كلّ هذا يتعرّى ويتساقط، إذ مَن يفعل بالبلد كلّ هذا؟ هنا تُعاد مُساءلة المفاهيم المفبركة حول أردنية الأردنيّ وإن كان فاسدًا.. ولا أردنية الأجنبيّ وإن كان مُصلِحًا.

[المكان والسُلطة: الثورات والنزول إلى الشارع]

تلاعب السُلطة في المكان ليس بريئًا، وهو مدفوع بمضامين عميقة وإن كانت كامنة وغير واعية، مثلًا يلفت الدكتور علي عبدالرؤوف النظر إلى إعادة تشكيل السُلطات المصرية لميدان التحرير، وتضييقه.. بعد الانقلاب العسكريّ.

هذا الشيء ليس محصورًا بمِصر وحدها، فمنذُ اعتصام المُعلّمين على الدوار الرابع أمام رئاسة الوزراء، سارعت السُلُطات إلى تسييج وتسوير معظم الدواوير الرئيسية بحيث لا تصلح للتجمّع الاحتجاجيّ، وكذا ما حدث مُؤخّرًا على الطريق المُؤدّي إلى الدوار الرابع، من فصل مَسرَبيّ الشارع بسِياج لتفرقة الاحتجاج الواحد، وحصره بمسرَب واحد (جدير بالذكر أنّ المُعتصمين كانوا يخترقون الحاجز الأمني، من خلال التناوب على الشدّ والجذب بين مَسرَبي الشارع، مما يفتح معبرًا وثغرًا عبر الأطراف، فيتقدمون أمتار قليلة للأمام وهكذا دواليك).

هناك علاقة رئيسية بين الفضاء العام والحراك السياسيّ، مثلًا يحتاج الحراك ساحات عامّة يُعبّر عن رأيه من خلالها، وساحات في المراكز الرئيسية ليكون الاحتجاج مُخاطِبًا وموُجّهًا للسُلطة بعينها، وليس مجرّد هتاف في صحراء أو فضاء مُقصًى ونائي، إذ لا قيمة معنوية في مثل هذا النوع من الصراخ. من المُؤكّد أن هُناك علاقة رئيسية بين الساحات العامّة وخبرة التعبير الاحتجاجيّ والحراك السياسيّ، وقد تُواجهنا حلقة مغلقة loop كإشكال في تحديد مَن يبدأ أوّلًا، هل تخلق الديمقراطية الحقيقية ساحات عامّة وفضاء عام قابل للحراك السياسيّ؟ أم هل يؤدّي شَغل حيّز الساحات العامّة بالحراكات الاجتماعية والسياسية إلى خلق أنظمة ديمقراطية ولو بعد حين؟ وعلى أيّة حال، فقد صار من المُؤكّد أن هناك تلازم وارتباط بصرف النظر عن الفاعِل الأوّليّ.

من هنا تأتي أهمّية الشارع، لا يُمكِن أن نفهم الدولة الحديثة بعيدًا عن الشارع، إنّ الدولة تحضر أشدّ ما تحضر في المُدُن، في إشارات المرور، في السجون، في الجمارك، في النقاط الأمنية والتفتيشية، كُلّها ضوابط ومُعيقات تضعها الدولة أمام حركة الأفراد والثورات كما أشار لذلك بول فيريليو في كتابه “السُرعة والسياسة: من ثورة الشارع إلى الحقّ في الدولة”، إنّ النزول إلى الشارع أمر مُلازم لكلّ الثورات، إذ أنّ جذور السُلطة مُنغرسة في الشارع، لهذا يحتجّ الناس في الشارع ويرفعون شعارات:”نحنُ باقون، نحن مُرابطون، اعتصام مفتوح، سوف نبقى هُنا، فلترحل الحكومة أمّا نحن فلن نرحل”.

كانت ساحة مستشفى الأردن، مُجرّد مساحة عادية، لا تملك أي قيمة رمزية، قبل أن يشغلها المُعتصمون باعتصماتهم، وهم بذلك قد مارسوا جُزء من تخليق هُويّة المكان، وهو أمر ضروريّ للغاية في قادم الأيام.

وكما يقول فوكّو: [لا يُمكن فهم المكان بالاستقلال عن ممارسة الناس]. ممارسة الناس في المكان، هُو الشيّء الذي حوّل ساحة ضائعة في الوَعي الأردني (الاحتجاجات التي تلت اعتصام النقابات في شهر 6 من عام 2018)، أقول: ممارسة الناس هو ما حوّل ساحة ضائعة في الوعي الأردنيّ مثل ساحة مُستشفى الأردن، إلى مكان مليء بالحيوية والطاقة الثورية.