العودة إلى الذات ومصاحبة الوحدة
أحيانًا..
يُوقفني وَجهي في المِرآة
أنتَ تغيّرت !
تَغيّرتَ كثيرًا..
– عدنان الصائغ
في مقابلة، طُلب من المُخرج الروسيّ أندريه تاركوفِسكيّ أن يُوجّه نصيحة للناس، فقال:
عليكم أن تتعلّموا كيف تبقون لوَحدِكُم، وأن تقضوا وقتًا أكبر مع أنفسكم، عليكم أن تتعلّموا مُصاحبَة الوَحدة ومرافقة أنفُسِكُم.
يهرب الإنسان من نفسه، يهرب، ويستنزف وعيه خلال اليوم بكلّ ما يمكن استنزافه مهما بدا تافهًا..
ويُحاول أن يُلهي نفسه عن مواجهة ذاته، من خلال:
- التجمهر والبقاء في جماعات على الدوام.
- استنزاف نفسه في الحياة اليومية، ليصل سريره مُنهكًا.. فينام دون تفكير
- العيش في سلسة من الأحداث الصاخبة والكثيفة التي تلهيه عن نفسه، (حفلات، أدرينالين بالرياضة والتجارب الخطيرة والاقتراب من الموت)
- الانسحاب من الواقع وانفصال الوعي (الإدمان، النشوة المُكثّفة..)
- دفع الشعور لأقصاه وتكثيفه (العنف والتعنيف..)
وهكذا يهرب الإنسان من ذاته حينما ينظر في داخله فـ يَرى ذاتًا لا يعرفها ولا تعرفه..
ويذكر تيد كازينسكي في كتابه، المجتمع الصناعيّ ومُستقبله،:
” إنّ الأفراد في حاجتهم إلى الشعور بامتلاك زمام السيطرة على حياتهم في المجتمعات الصناعية الحديثة، يلجأون إلى”الانشطة البديلة” التي تُوهم بتحقيق هدفٍ ما، مع انتفاء الحاجة الحقيقية الى تحقيق الهدف نفسه.
مثلاً، لا يوجد دافع عملي من وراء ضرب كرة وادخالها في حفرة.
مع ذلك يستغرق كثير من الناس اوقاتهم وجهدهم في لعب الجولف.
إنهم يتشبثون بفعل ذلك النشاط البديل ويُعلِّقون عليه الآمال لمجرّد ان الناس حولهم ومجتمعهم يخبرونهم أنهم ذوو أهميّة إذا فعلوا ذلك. “
وهكذا تخلق التقنية وأنماط الحياة الحديثة مسافة جافة بين الإنسان وبين ذاته، إنّه يلهث ويركض وراء ما لا يعرف، ولا يهمّه أن يعرِف، المَهم أنّ يفعل ما يفعله الآخرون.
إنّنا حينما نفعل ما يفعله الآخرون، نظهر لهم قدرًا من الولاء الاجتماعيّ، إنّنا حينما نتّبع الموضة، لا نصنع شيئًا مُهِمًا، سِوى أن نقول للعالَم:
أنا منكم، أنا مثلكم، لا تُهاجموني، ولا تنقضّوا عَليّ.
وقد كان الأنبياء بالمناسبة يمتهنون الرعي، وهي مهنة مُناسبة للغاية لكيّ يتأمّل الإنسان نفسه وغيره والوجود ويجلس مع نفسه.
فالإنسان يخاف أن يجلِس مع ذاته، لأنّه يشعر بوحشة شديدة من جهة، أو لأنّه يملّ من نفسه من جهةٍ أخرى..
فَمَن يَمَل من كونٍ لا حدود له ولا نهاية لأعماقه؟ ومَن يَمَل من الإبحار في مناطق غير مُكتَشَفة ؟
أن تتعلّم كيف تتحدّث إلى نفسك ليس جنونًا بقدر ما هي محاولة لتقليل الفجوة والمسافة التي تفصِل بين [ما تُظهره للناس] وبين [ما أنتَ عليه في الحقيقة]
أن نتعلّم كيف نجلس مع ذواتنا، دون أن نشعر بأيّ إحراج أمام هذا الكائن الغريب الذي لا نعرف كيف نبتدئ الحديث معه. لا يعني أن نكون وحيدين، أو مُنعزلين أو مُنغلقين.
إنّما يعني أن نكون أقوياء بما فيه الكفاية، لنصمد حينما تُلقينا الأقدار لوحدنا في مواجهة الخارج والآخرين.
ماذا ستفعل حينما تنقطع الكهرباء وعندما يرحل الأصدقاء، وحينما يغادر الأقرباء؟
ماذا سيحدث لو خسرتَ كلّ ما تملك، أو إذا ما سلبتكَ الأيّام كلّ ما تملِك؟
أنتَ لستَ ثيابَك، ولستَ سيّارتَك، ولستَ أموالك، ولست ما تملِك.
(قيمة الإنسان لا تكمُن في إنجازاته، بل فيما يتوقُ إليه)
(بالمناسبة هناك تجارب عديدة لحالات التخلّي والانفصال، Detachment .. غني عن التعريف على المستوى السينمائي Into the wild وعلى المستوى الأدبي كتاب “والدن، أو الحياة في الغابات” لـ هنري ديفيد ثورو، وجميعها تجارب حقيقية) طبعًا هذا لا يجعلها قابلة للتعميم ولكن ذكرها على سبيل “الإمكان” وتِبيان عدم “الاستحالة”
هكذا إذًا، إنّنا حينما نتوه من أنفسنا، نركض مُبتعدين بأنفسنا عن أنفسنا، وهكذا ننتهي إلى حيث ابتدأنا
running in circles, coming up tails بتعبير كولد بلاي
وهكذا يُمضي الإنسان حياته محاولًا أن يملأ كأسًا لا قاع له، فراغ يتوالَد ذاتيًا إلى ما لا نهاية.
اقترِب ! فما الذي تخشاه؟
ابحث ! فقد تجد ما كُنتَ تفقد بانتظارِك..
وهو ما حاول ديريك والكوت أن يشرحه في قصيدته، حينما قال:
ستُحبُّ مرّةً أُخرى، الغَريب
الذي كانَ نفسَك.
ستُعيد قلبكَ لنفسِه،
إلى الغَريب الذي أحبّكَ
طِوالَ حياتِك،،
الذي تجاهلتَه من أجلِ الآخر
الذي يَعرِفُكَ عن ظهر قلب.
فما فائدة، أن تقتربَ من كُلِّ شيء.. وتبتعد عن نفسك؟
ولأنّ الحكمة ضالة المؤمن، أختِم بالسؤال العظيم الذي أعيد اقتباسه على الدوام، ذاكَ الذي جاء في إنجيل لوقا ( ٩: ٢٤ – ٢٥ ):
فماذا ينفعُ الإنسانَ لو ربحَ العالمَ كلّهُ ، و خسرَ نفسه ؟