بشر من الخارج وحوش من الداخل: حول الطبيعة البشرية

BY: Administrator

يذكر ممدوح عدوان أنّه قد جاء في التفاصيل التي نُشِرَت عن الرياضيين الذين تحطمت طائرتهم في جبال الأنديز، وبعد أن انتهى كلّ ما لدى الناجين من طعام و هُم مُحاصَرون في الجبال الجليدية تحت العواصف الثلجية، نصحهم أحد زملائهم، وهو طالب طب، أنّ عليهم أن يتناولوا البروتين كي يتمكّنوا من مُقاومة البرد والبقاء على قيد الحياة. وليس هُناك أي مصدر لهذا البروتين إلّا جُثث زُملائِهم وأهلِهم الذين قُتِلُوا في الحادث، كما أنّ عليهم أن يُسرِعوا بنش الجُثث لأنّ تراكم الثلوج وضعفهم المُتزايد سيزيد من صعوبة الوصول إلى هذه الجُثث.

وبعد فترة، يصِل فريق الإنقاذ في طائرة هيلوكوبتر، ويقول الطيار (في كتاب “أحياء” الذي يَروي القصّة)، إنّه حين أطلّ على مكان وجود الأحياء الناجين، رأى أمامه عِظامًا آدميّة مُتناثِرَة على مدى النظر، وكأنّ قطيعًا من الوحوش المُفتَرِسَة قد داهمَ تجمُّعًا بشريًّا.

هكذا الأمر إذًا، في داخلنا وحوش، تظهر عندما نشعر بأنّنا اقتربنا من المَوت، وحوش، لا يُقيِّدها إلّا قانون مُتسلِّط أو شريعة رحيمة عقلانية.

وتُروَى مقولة عظيمة على لسان الجوكر، كيف أننا نَكبُر وننضُج ولا نعود نخشى الوحوش والغيلان لأنّنا نُدرِك أنّ أسوأ الوحوش هي تلكَ التي تَقَع في داخلِنا،،

وفي أغنية “Heathens” لـ الفرقة الجميلة Twenty one pilots، جاءت الكلمات المُخيفة التالية عن الغُرباء الذين نلتقي بهم في الأماكن العامّة، بما معناه:

تريّث قليلًا (أي، قبلَ أن تُبادِر بالكلام والتعرّف على الغُرباء)

أنتَ لا تُدرِك مَن المُجرِم الذي يجلِس بجانبك.

أنتَ لا تُدرِك المريض النفسي Psychopath الذي يجلِس بجانبك.

فقط لأنّنا أخذنا/انتزعنا الأسلحة من الزُوّار/البَشَر من عند الباب، لا يعني أنّهم أصبحوا مُسالِمين.

(في دلالة إلى النزعة التدميرية الذاتية: إيذاء الفرد لنفسه)

إنّ أخطر الدلائل التي كشفتها الهولوكوست، كما يُشير زيجمونت باومان، لا تتمثّل في إمكانية أن يَحدُث لنا “هذا” (الجرائم أو الإبادة). وإنّما في إمكانية أن نفعل نحنُ “هذا”.

وفي التجربة الاجتماعية التي قام بها الجوكر بتقسيم فئتين من المجتمع سفينة فيها أبناء المجتمع الصالحون، والأخرى فيها المجرمين والسُجناء، وأعطى لكل منهم مفتاح تفجير الأخرى، ردّ الجوكر على باتمان بقوله:

هؤلاء، هل ترى هؤلاء الناس المُتحَضِرين؟ عندما تَحين الساعة (عندما يقترِب المَوت وتعمّ الفوضى)، سيأكلون بعضهم البعض ! هل فهمت؟ أنا لستُ وحشًا! أنا مثلكُم، لكن أسبقكم بخُطوة!

هذه هي الحقيقة، عندما وفقط عندما يقترِب الناس من المَوت، حينها سيظهرون لكَ على حقيقتهم، وقد أحسنَ جوزيه ساراماغو التوصيف في روايته العظيمة “العَمى”، ونعم وكما جاء على لسا زوجة الدكتور: سننتنّ، سننتنّ نحنُ البشر وتصلُ رائحتنا القذرة إلى السماء العالية

ففي غمرة الحقائق المُفزِعَة التي كشفتها الهولوكوست، قال دوايت ماكدونالد عام 1945:

إنّه يجب الحذر من أولئك الذين يحتَرِمون القانون، أكثر ممّن ينتهكونه.


((هَل نَحنُ سيّئون فِعلًا؟))

في المسلسل الجميل الذي صدر من فترة قريبة، بعنوان The Night of، وهو مسلسل ذو دلالة عظيمة بصدق، تدور أحداث المَوسِم الأول حول “ناصِر خان” شاب أمريكي مُسلِم من أصول باكستانية، يتم اتهامه بجريمة قتل، يبدو أنّ لم يفعلها وللمُسلسل تفاصيله.

أمّا الدلالة العظيمة في المسلسل، فهي قُدرة الآخرين على أن يُحولونا إلى مُجرمين، لا تحويل سلوكي مادي فقط، وإنّما أن يُقنعوك بأنّك كذلك وأنّكَ كُنتَ دائمًا كذلك !

لقد كان ناصر خان شاب بريء ومُسالِم، واستيقظ ليجد نفسه في موقع الجريمة مُحاط بالأدلّة التي تُشير إلى أنّه قد فعلها، لا يُصدِّقه أحد، وكذا أهله ومُحاميه يشعرون بأنّه قد يكون فعلًا قد ارتكبها، ليُصبِح هو نفسه يَشُكُّ في نهاية الأمر إذا ما كان قد فعلها أم لا.

أمّا الدلالة فيُمكن تعميمها، كيف أقنتعتنا حكوماتنا بأننا سيئون، وأننا أنفسنا سبب التخلّف والفقر الذي نحنُ فيه! كيف يدفعنا أهلونا أحيانًا لأسوأ السلوكيات بالضغط والإرهاق والمشاكل، ثُمّ عندما ننفجر يقولون هذا أنت، تُنكِر في البداية، يتكرر المشهد، ثُمّ تؤمن بأنّك إنسان سيء حقًّا.


((عَالَم بلا وَحِي))

لكن، ما الذي حَدَث؟

وما الذي جَنيناهُ على أنفُسِنا عندما أزحنا الدين جانبًا، وأدرنا أنفسنا بأنفُسنا؟

يبدَأ إشعياء برلين كتابه باقتباس لإيمانويل كانط، يقول فيه: “مِن نَسيج الإنسان الفاسِد، لم يُصنَع أبدًا أيُّ شيءٍ مستقيم”.

وفي فيلم Blood Diamond العظيم، يتساءل ليناردو ديكابريو، على لسان الشخصيّة التي يؤدِّيها “داني” بعد ما يرى فظاعة ووحشية ودمويّة الحروب التي يتسبب بها الإنسان لأخيه الإنسان، بقوله:

أحيانًا أتساءَل … هَل سَيُسامحُنا الله يومًا، على ما فعلناه ببعضنا البعض؟ ثمّ أنظُر من حَولي وأُدرِك أنّ الله قد تَرَك هذه الأرض من فترة طويلة (تلكَ الفترة التي أُوكِل للبشَر القيام بالمهمّة الإلهية).

وفي رسالة “المحاورات” لديفيد هيوم، يذكر هيوم على لسان شخصية فايلو، حاجة الإنسان لهُدَى يقوده لبرِّ الأمان، إذ يقول:

“لكن، صدّقني يا “كلينثس”، إنّ أكثر فكرة طبيعية يُمكن أن تُراوِد العقل السَويّ تجاه هذه القضية، هي فكرة حنين الإنسان وتطلّعه إلى أنّ الَسماء (الإله) سترضى بتبديد أو على الأقل بتخفيف، هذا الجهل المُطبِق على الإنسان، من خلال منحه وَحيًا أكثرُ تفصيلًا”

إنّ الوحي -كما يذكر الدكتور عبدالله الشِهري- اعتماد مُستقِل عن التجربة البشرية، External validation لأنّه آتٍ من خارِج مَحل النِزاع لا من داخله، ومِن وراء إشكالات الطبيعة لا من قلبها، ولذلك يقول الله تعالى:

[فإمّا يَأتينَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِع هُدَايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزَنون]


((هَل تبتلعُنا الأقنِعة؟))

في التفسيرات التي رُويَت عن انتحار هيث ليدجر، الذي قام بدور الجوكر في فيلم The dark knight، وهو ما أعتَقِد أنّه أعظَم دور قام به مُمثِّل في السينما الحديثة من ناحية شخصية، فإنّه قَد صُدِّرَت آراء مُختلِفة كان مِن أبرَزِها، كيف قتلت شخصية الجوكر هيث ليدجر؟

إذ يُقال أنّ هيث ليدجر لم يَحضر أيّة دروس تمثيل أو تدريب رسمية على شخصية الجوكر، وعندما سُئِل عن ذلك أجاب: كُل ما عليكَ فعله، هو أن تُقنِع نفسَك بأنّك حقًا ذلك الدور الذي تُريد تمثيله، وتُؤمِن وتتعامل مع نفسِك على هذا الأساس.

لقد ذكر أصدقاء ليدجر الجُملة التالية: لم يستطِع ليدجر”الفَصِل Disengage” أو التحرّر من شخصية الجوكر، لقد أرهقه التناقض، فاختار شخصية الجوكر

لكن هُنا سُؤال نوجهه لأنفسُنا، هل تكون أنتَ كذلك؟

لقد ارتديتَ هذا القِناع لفترة طويلة، إلى درجة أنّك قد نسيت مَن كُنتَ أصلًا مِن قبل أن ترتديه!


((كيف يُحدِّد العالَم خَيَارَاتِنا ويُوهِمنا بالحُريّة؟))

تبدأ أغنية “حجر آخر في الجِدار -Another brick in the wall” للفرقة الإنجليزية الشهيرة Pink Floyd بالكلمات التالية:

لا نَحتاجُ تعليمًا، لا نحتاج أن يُسيطَر علينا فِكريًا،

أيُّها المُعلِّم دَع الأطفال وشأنهم، ففي النهاية أنتَ مُجرّد حَجَر آخر في الجِدار

ألا تكرَه أن تكون مُجرّد حَجَر آخر في الجِدار؟

لكن، هُناك مأزِق آخر فنحنُ لا نُريد أن نكون جُزء من قطيع ممسوخ وفي الوَقت نفسه، لا نُريد أن نتفرّد وأن نتميّز بطريقة شاذة أو مِن أجل إثبات شيء ما للخارِج.

وفي أغنية Mike Posner بعنوان “I took a pill in Ibizza”: تُبرِز لنا الكلمات، لماذا قد نُقدِم على فِعل ما، من أجل حُب الظهور وإثبات شيء ما للآخرين، وكيف نريد أن نبدو Cool بالنسبة لمن حولنا، وكم تبدو الحياة مُرهِقة وفارغة حينما نحياها كذلك وتبدو حلقة مُفرَغة يصعُب الانفكاك منها.

لكن تكمُن المُشكلة الحقيقية، أنّ مُعظَم خياراتنا هي خيارات وهمية، تمّ إقناعُنا بضرورتها والحاجة إليها، أقصِد ينبغي أن نُميِّز بين ما نُريده حقًّا وبين ما تم إيهامنا بأنّنا ينبغي أن نُريده.

وفي فيلم Detachment العظيم، يَصيح المُعلِّم بتلامذته، موبِّخًا ومقهورًا، كيف يتم مِسخهم وتشويههم، فيقول:

– كيفَ يُمكنُكُم أن تتخيّلوا أي شيء، إذا كانت الصورَة دائمًا مُحددة لكم؟

– أنا سأقول لَكُم كيف؟ مِن خلال إزدواجية التفكير، أن تتعمّد أن تُؤمِن بالأكاذيب، وأنتَ تعلَم بأنّها أكاذيب!

– هل تُريدون أمثلة من حياتكم اليومية؟ أووه عليّ أن أكون جميلة، عليّ أن أكون سعيدة، يَجِب أن أخضع لجراحة تجميل، عليّ أن أكون نحيلة، ومشهورة، ومواكِبة للموضة!

على مدار 24 ساعة ولبقيّة حياتنا هُناك سُلطات تسعى على الدوام لمسخنا واستغفالنا وإيهامنا وتوجهينا !


((الحُب، الألَم الذي نَعشَق))

كُنتُ أقول في نَفسِي، كَم نَبدو كائنات بائسة حينما يتعلّق الموضوع بالحُب!

أُراقب الأغاني القَديمة على اليوتيوب، والتعليقات المذكورة في الأسفل، شيء بائس، بائس بحَق، لا شيء يدوم لنا نحنُ البشر، إنّها عُقدتنا التي تُطارِدنا مُنذ مجيئنا، عُقدة الفَناء، عُقدة الرَحيل!

وفي تعليقات على أغنية لسعدون جابِر، تِجِد العديد ممن كان يسمعها في شبابه، حينما كان يعشق فتاة بالجامعة واليَوم وبعد أكثر من 20 سنة يتمنّى أن يراها، أو أن يسمَع منها، بلا أيّ صورة يحتفظ بها، مُجرّد ذكريات مُشوّهة وُمشوّشة مزروعة في ذاكرة القلب المسكين.

أمّا أكثر ما يُثير الشفقة، فهي أنّ مسرح الأحداث كان العِراق، العِراق الذي أحببناه ولم نُدرِكهُ سليمًا مُعافى، فلسطين من قبل، وسوريا اليوم، فهل حلّت علينا اللعنة؟

يُعبِّر عدد كبير من الأغاني عن مآسينا وآلامنا التي يتسبب بها بالحُب، ولا يتسّع المَجال هُنا لذكرها جميعًا بالطبع.

لكن الجدير بالذكر أنّ أغرب ما في الحُب أنّه المُغامرة الوحيدة التي نُقدِم عليها ونحنُ نَعلَم أنّنا سنتأذّى وستُنهَشُ قلوبنا، إنّها إلقاء بقلوبنا إلى التَهلُكَة ونحنُ مُدرِكون.

ولعلّ Ed sheeran نفسه يُوضِّح لنا هذا، بأغنيته Photograph عندما يقول:

ولكن إذا قُمتِ بإيذائي ، فلا بأس حبيبتي، إنّما هي الكلمات فحسب ما يُحزِن ويُدمِي القَلب،

(وكأنّه يقول سأبقى كما كُنتُ دائمًا، أُحبُّكِ، حتى لو آذيتِني)

وفي رواية للكاتِب الإنجليزي Neil Gaiman، يصف جايمان تجربة الحُب بقوله:

هَل وقعتَ يومًا في الحُب؟ فظيع، أليسَ كذلك!

إنّه يَجعَلُكَ تَشعُر بأنّك مُعرّض للهُجوم وأنّك ضعيف تَقِف بلا أيّة أسلحة!

إنّه يشقُّ صَدرَك ويفتح أبواب قلبِك، وهذا يعني: أنّ بإمكان الشَخص الذي فتحتَ له قلبَك، أن يخترقَك من الداخل ويعبَث بِك.


“رَحِمَ الله أبا ذر، يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده” – سيدي رسول الله ﷺ