الجَمَال مَقتولًا: لعنة الاعتياد وأفول الدهشة
الجَمَال في هذا العالَم … يجب إنقاذه – درويش
إذا ما نحن حدّقنا قليلًا في المُكعّب الذي يظهر في الصورة
فإنّ ما يحدث غالبًا مع معظم الأشخاص، أن تنعكس جهات المُكعّب بحيث تبدو الواجهة الأمامية كما لو كانت في الخَلف
يُطلَق على هذا المُكعّب إسم Necker Cube رؤية المُكعّب السابق بطريقتين بعد تحديق طويل، يستدعي تفسيرًا يهّمُنا لسياق مُغاير لكنّه مُتصّل
إنّ ما يحدث فعليًا في أذهاننا هو أنّ الأشياء تميل إلى الاختفاء تدريجيًا وبالتلاشي، متى ما حدّقنا بها لفترة طويلة، أو رصدناها لمُدّة طويلة
ويُمكِن لهذا التحايل الإدراكي، الذي يخدع به الذهن نفسه، ليخفّف من شدّة المُدخلات أن يُفسِّر بيولوجيًا. منها مثلًا: ميل الدماغ إلى إخفاء الأصوات غير شديدة الارتفاع التي تُحيط بنا، حيث تختفي تدريجيًا أصوات (سيارات الشارع، العصافير، صوت آلية حفر بعيدة..) ما لم نلتفت بالقصد إليها
لكن أريد هُنا أن أسحب ما سبق إذا ما صحّ أنّ الذهن يفقد حساسيته للخارج كلّما زاد طول تحديقه أو رصده له، ما يعني أنّنا قد نفقد الكثير أحيانًا ونخسر من دون وعي
إنّ الذهن يستثني ويُقصي، ويتحايل ليتّخذ أقصر الطُرق وأسهلها. ومتى ما أرهقته زخم المُدخلات والمُشاهدات أو هولها فإنّه سرعان ما يُوجّه نفسه صوب شيء واحد، مُقصيًا بذلك باقي المُشاهدات. وهو بذلك يخدع حتى نفسه (أو بتعبير حسين، الذهن كالعقربة، يلدغ نفسه أحيانًا)
لكن خطورة ما في سبق تكمن في الآتي: أن نتعوّد ونعتاد، فنألف وتفقد الأشياء حضورها، والشخوص هيبتها، والأرواح بريقها
إنّنا إذا تعوّدنا اتّجهنا إلى اللامبالاة أن نتعوّد يعني أن نفقد حساسيتنا تجاه ذواتنا والخارِج ومتى ما فقدنا حساسيتنا تحوّلنا لكاميرات راصدة وروبوتات سائرة بلا ذائقة أو ذوق أو صبغة ذاتية
وإذا كان ممدوح عدوان يرى أنّنا نتعوّد لأنّ شيئًا ما مات فينا (واضعًا العربة أمام الحصان) فلعلّ الصواب أن نقول أنّنا نموت متى ما تعوّدنا، وأنّنا نبقى بخير متى ما قاومنا الاعتياد والتعوّد والأُلفة والدهشة
إنّنا نموت إذا لم تعدّ تُدهشنا الأشياء من قبلُ ومن بعد ونموت إذا ألِفنا كلّ ما يُحيط بنا، دون أن يُحرِّك فينا ساكنًا ونموت، إذا صار كلّ عظيم وذي هيبة، عادي ورتيب، مُكرّر ومألوف
وأريد أن أشير إلى بضعة مُلاحظات، كتطبيقات تتعلّق بما سبق:
أولًا: يسعى القرآن في مواضع عديدة إلى التذكير بآيات عظيمة يعاينها الإنسان في كلّ يوم، ولكنّه لا يُلقي لها بالًا، لأنّه يسير بقلبٍ جاف، عمليّ، بلا حساسية فاقدًا ذائقة الجمال (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)
ولذا كان القرآن يُنبّه على الدوام، أن ينظر الإنسان مُتأمِّلًا في السماء والأرض، وفي الشمس والقمر، وفي خلق نفسه (وهي آيات عِظام، مثلًا قراءة كتب Cosmology والنظام الكونيّ تُلقي في الصدر من هيبة وإجلال تجاه الوجود ما لا تُلقيه مواعظ ودروس)
وفي الحديث أنّ بلالًا جاء الرسول ﷺ وهو يقوم الليل فوجده يبكي فسأله بلال لقد نزلت عليّ الليلة آية، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها [ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب… ]
وأولي الألباب هُم أصحاب العقول، وأصحاب الفهم، من حيث المعنى، أم صفتهم التي وصفهم بها الله: – يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم – يتفكّرون في خلق السماوات والأرض – يطرحون الأسئلة ذات البُعد الغائيّ (ربنا ما خلقتَ هذا باطلًا؟)، لِمَ خَلَقته؟ هُنالك سبب يستحقّ البحث.
حتى أنّ القُرآن لما وصف الأنعام، وما يُمايز به الإنسان عنهم قال: [ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجِنّ والإنس] ما هي صفتهم؟
– لهم قلوبُ لا يفقهون بها
– لهم أعينُ لا يُبصرون بها
– لهم آذانٌ لا يسمعون بها فوصفهم بأنّهم كالأنعام
– بل أضلّ من الأنعام وختم الآية فوصفهم بأنّهم [غافلون]
إنّ الإنسان الذي لا يُفكِّر ولا يُريد أن يُفكِّر أضلّ من الأنعام والحيوانات لأنّه يمتلك مُمكنّات التفكير والإدراك ولا يُوظّفها ولأنّه مُكلّف ومُبلّغ بالتكليف ومع هذا أعرض ونأى ولأنّه يجحد نعمةً هُو يملكها، فلا يستثمرها ويُريد أن يأتي يوم القيامة، بعقلٍ جديد غير مُستعمَل
إنّ ممُكنّات الإنسان وامتيازاته متى ما أغفلها أو أهملها أو أساء استخدامها، كانت عليه ولم تكن له
أمّا المُلاحظة الثانية التي تستحضرني فتلك المُتعلِّقة بنمط الحياة المُعَاش يوميًا، والذي يُحوِّلنا وكُلّما تقدّمنا بالعُمر واخترقنا واقع الحياة، إلى كائنات جافّة وعملية، بائسة بلا أيّ دهشة أو حساسية تجاه الجمال
ولغاليانو قصّة: رأيتُ طفلة على الشارع الآخر عمرها سنتان على الأكثر تلعب وقد انحنت لكي تحُيِّ العُشب والنباتات وتُسلِّم عليه قائلة: صباح الخير أيُّها العُشب، صباح الخير!! وهذا يعني أننا نكون شُعراء في صغرنا ومع مرور الوقت يشذب هذا العالم أرواحنا ، ويسرق الوَهَج والشغف من داخلنا
إنّ نمط الحياة اليوميّ والعَمَليّ، الإرهاق الدائم والسعي المُنهِك من أجل تحصيل المال وتحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي، يُحوّلنا بعد فترة لكائنات باتجاه واحد، اتجاه الإنتاج وجنيّ الأموال، باعتبار المال اللغة الوحيدة المفهومة وذات وزن في الواقع المُعاصِر
وحول جلافة الإنسان العمليّ والماديّ يستحضرني مفهوم عالِم النفس وفيلسوف البرغماتية الأمريكي وليم جيمس حينما يتحدّث عن الإنسان ذي الذهن الصارم Tough-minded في مُقابل الإنسان ذي الذهن الناعم أو الرقيق (الذي يَعنَى بالقيم الروحية والجمالية)
وصفة الإنسان الصارم تتحدّد من خلال الملامح الآتية: – إنسان أُشرِبَ حقائق الحِسّ والملاحظة حتى اكتسب عقله هيئة صلبة وجافّة -عقلية لا تعنى بالجَمال أو أي قيمة فوقية إذا لم يكن بالإمكان فهمها في إطار ماديّ -إنسان ذي عقلية مُتبلّدة أمام المُطلَق والقِيَم العُليا ومنظومات الأخلاق
وأمّا المُلاحظة الأخيرة، فهي تذكير بأن لا نفقد حساسيتنا تجاه الجمال، وأن لا نفقد دهشتنا بما حولنا، وأن لا نعتاد التفاصيل ونُهملها ومتى ما كُنّا كذلك كان وجداننا بخير إنّها معركتنا في أن نكون وأن لا نتعوّد ومَن يتعوّد يفقد شرط التغيير وشرط الثورة، حساسيته وقدرته على تذوّق الجمال
يا لشقاء التفاصيل! إنّ العصر القادِم سيُهملها كلّها ! – فولتير