البقاء كمُفترِس أو الهلاك كفريسة – عن منطق الصراع

BY: Administrator

| منطق الدراوينية وصراع البقاء
————————————————————-


There is no but one rule: Hunt ! or you will be hunted !!

يُحدّد فرانك أندروود في مسلسل House of Cards (وهو واحد من أهم المسلسلات التي شاهدتها) أقول، يُحدّد بهذه القاعدة العريضة السياسة والمُجتَمَع، إنّ الحياة عنده ليست إلّا حلبة صراع داروينية، يأكل فيها القويّ الضعيف، وأنّ الأمر لا يقتصر على الانكفاء على الذات، بمعنى لا يكفي أن تكون قويّ ومُحايد، وإنّما يجب أن تبدأ بالركض والصيد في هذه الحَلبة، لأنّك إن لم تفعل فسيتم اصطيادك. (يُشبِه هذا لعبة الجاكارو لمن يعرفها ففلسفة الانتصار باللعبة لا تقوم على أن تُدخِل أنتَ الكرات في منطقة الأمان فحسب، وإنّما على أن تمنَع الآخرين من أن يُدخِلوا كراتهم منطقة الأمان).

ويُميّز فرانك أندروود بين المال والسُلطة، ويرى أنّ السُلطة أهم بكثير من المال، ووفق منظور السُلطة هذا، ووفق منظورات حيوانية صرفة يُحدّد أندروود العديد من السلوكيات البشرية، حتى أنّه يخلص للنتيجة التالية: كل شيء في العالَم يدور حول الجِنس، إلّا الجنس نفسه، فهو يدور حول السُلطة.حتى أنّي أذكر أنّ لعبة God of war أو ما تبدأ، تبدأ بمقولة لأرسطو: إذا أردتَ أن تعرِف رجلًا بشكل جيد، فانظر إلى أفعاله حينما يمتلك السُلطة.

لكن أندروود هُنا إنسان داروينيّ برجماتيّ بامتياز، لا على مستوى السياسة والاجتماع فحسب، وإنّما على المستوى الشخصيّ، حتى أنّ علاقته بزوجته (وهي من أغرب العلاقات التي يُمكن رصدها) تتخذ أكثر أشكال النفعيّة والتعاقدية الغريبة للغاية.

أبعد من هذا عند أندروود هو تدنيس المُقدّس، ففي مشهد عظيم يدخل أندروود الكنيسة ويبصق على تمثال المسيح، لأنّ لا يبيع الناس إلّا الوَهم، أمّا كل ما هو ديني في المسلسل فلا يمكن فهمه إلّا في إطار نفعي، إذ يدخل الكنيسة مُبشّرًا وداعيًا بأخلاقيات المسيحية، ولكن لغايات الترويج لنفسه، لا لغايات تعبّدية.

ويصل هذا الفكر أقصاه حينما يتسلّم أندروود رئاسة الولايات المُتحدّة، فيكون أول ما يفعله، هو أن يذهب إلى قبر أبيه ويتبوّل عليه بكل وقاحة، ما يُشير لقطيعة كُبرى مع الماضي والتُراث وأي قيمة مُقدّسة.

وإذا كان فرانك أندروود يُعبِّر عن هذا في مسلسل House of Cards، فإنّ المُطابقة الداروينية على المستوى الاجتماعي والنفسيّ تحصل في مكان آخر في مُسلسل Fargo حيث فلسفته تقوم على عِلم النفس والاجتماع التطوّري. ونجد أنّ شخصية لوري مالفو، هي أكثر شخصية مُخيفة في الموسم الأول، شخصية تتبنّى المنظور التطوّري جُملةً وتفصيلًا. وهي تُشبه إلى حد بعيد شخصية خافيير بارديم في فيلم No Country for Old Men.

وذكر الصديق مجد ذات مرة، أنّ تجسيد الشخصيات بهذه الصورة، هو أمر مُبالَغ فيه، هو دفع الفكر لأقصاه، وهو أمر غير واقعيّ، إذ يغيب إحياء أي ضمير أخلاقي، أو مراجعة أخلاقية تصيب البطل أو شخصية الفيلم، وهو أمر صحيح ودقيق، على أنّي أرى أهمية أن ندفع الأفكار والأيدولوجيات لأقصاها -وإن لم تكن قد حصلت في الواقع- لكي نفهم مآلات الأفكار وصيرورتها وأبعادها الضمنية.

ويُمكِن أن نجمع هذه العقليات السابقة في شخصية جيك جيلنهال في فيلم Nightcrawler حيث إنسان منزوع المشاعر وأي قيمة تعاطفية أخرى، إنسان صلب، جاف، ويتطوّر به الأمر من تصوير الأحداث الفظيعة، إلى اختلاق الأحداث الفظيعة من أجل أن يجني المال والشهرة.

لكن ما دلالة الليل في فيلمه هذا وفي فيلمه Nocturnal Animals. وأرى أنّ دلالة الظلام، هو أنّ الظلام يعني غياب السُلطة القانونية، والعودة إلى شريعة الغاب، حيث الجرائم يُمكن ارتكابها، إذا لم يكن هناك ضمير أخلاقيّ ذاتي، ففي الظلام كُل شيء مُباح.

————————————————————-
|| كيف تبتلع الرأسمالية الأديان؟
————————————————————-

يذكر روجيه جارودي أنّ ثقافة القرن العشرين -وما بعده- تقوم على ثلاث مُسلّمات:

1. مُسلّمة ديكارت: ”لنجعل أنفسنا أسياد الطبيعة و مالكيها”
وهي علاقة قائمة على السيطرة على الطبيعة جُردت من أي غاية خاصة.

2. مُسلّمة هوبز: ”الإنسان ذئب يهاجم أخاه الإنسان”
وهي علاقة منافسة في السوق و مواجهات بين الأفراد ، علاقة السيد بعبده.

3. مُسلّمة مارلو: الذي أعلن موت الرب حينما قال ”أيّها الإنسان كُن إلهًا بعقلك وسيد العناصر كلّها“.

وبهذا يرفض الإنسان أي قيمة مطلقة مقدسة ، فيصبح تصور التقدم تصور وضعي ، يُقاس بقدرة الإنسان على أخيه الإنسان و على الطبيعة .

وفي فيلم There will be blood ويُمكِن باختصار أن يكون غلاف الفيلم أبلغ توصيف عنه حيث مضخّة النفط تكون على شكل صليب المسيح كما في الصورة

أيّ أنّ الدين قد تم تطويعه لخدمة رأسمال! وهي قصة تُحكى بالتفصيل من خلال أحداث الفيلم، حيث يتدرّج البطل دانييل دي لويس في المساومة مع رجل الدين في الكنيسة، لينتهي به المطاف متملّكًا زمام الأمور كُلّها.

ويتجلّى هذا كُلّه في آخر مشهد وهو مشهد عظيم للغاية، حيث يُجبر البطل القِس، رجل دين الكنيسة، على الاعتراف بأنّ ما يقدّمه للناس ليس إلّا الكذب والوهم وأنّ الكلمة الأخيرة هي للمال ورأس المال. كما في الفيديو

إنّ الدين المسيحيّ تحوّل في ظل ثقافة رأسمالية استهلاكية مُهيّمنة إلى دين رأسمالي، حتى أنّ العديد من الكنائس، حتى تحوّلت لترويج دعائيّ، فهُناك كنائس حسب الهوايات، كنائس لمُتزلجي ركوب الأمواج، وكنائس للشواذ، وكنائس حسب العرض والطلب. وهذا الأمر غير مقتصر على المسيحية فحسب، فأنماط التديّن في الإسلام خضعت من فترة غير قريبة لمثل هذا، أنماط على قياس الزبون، أي دين كما يريده المُسلِم، لا مُسلِم كما يُريده الدين. وقد كتبت مُراجعة لكتاب “إسلام السوق” للباحث السويسريّ باتريك هايني، موجودة على نون بوست هنا.

————————————————————-
|| منطق الرأسمالية وافتعال الحروب
————————————————————-

حسب عِلم النفس التطوّريّ، فإنّ البشرية في فترة ما قبل التاريخ شهدت مرحلتين رئيسيتين: إحداها قام فيها الإنسان بصيد الحيوان، والأُخرى حيث قام الإنسان بصيد أخيه الإنسان.

وحسب عالمة الاجتماع باربارا إيهرنرايش، فإنّ الحرب ما هي إلّا تواصل للنزعة التطوّرية للصيد وتجنُّب أن يكون الإنسان فريسة الآخر.

وكتب ربورت لي ذات مرّة: من الأكيد أنّ الحرب شيء فظيع للغاية، ولكنّنا في النهاية نُصبح من عُشّاقِها. وذكر وليام جيمس: ولدنا كلنا لنحارب!!

ولكي نفهم أنّ أثر الرأسمالية، يتعدّى الرؤية الاقتصادية ويتداخل في مجالات السياسة والاجتماع والأديان، يُمكِن أن نرجع إلى آدم سميث نفسه، أحد أبرز مُنظّري الاقتصادي السياسيّ، ففي كتابه “ثراء الدُوَل” أشار للآتي: إنّ فن الحرب هو أنبل الفنون قاطبة !
وسبب ذلك وفق آدم سميث، أنّ الحرب سمحت بالتقدّم المُطرِد للتجارة وإعادة خلق التوازنات والانتعاشات الاقتصادية.

وتُعيننا على ذلك مقالة الاقتصادي توماس مالثوس، والحاجة للتدخّلات الخارجية بالحروب والأمراض وغيرها لإعادة خلق التوازنات. ويُمكِن أن نفهم هذا بشكل أعمق، إذا ما عرفنا أثر هذه المقالة في تشكيل فكر داروِن ونظريته.

لكنّ علم النفس والاجتماع التطوّري هو علم انتقائيّ، يُريد فقط أن ينتقي ليس ما يُفسّر فحسب السلوك الدمويّ للإنسان، وإنّما ما هو أخطر: أن يُشرعِن دموية الإنسان ويجعلها نزوع طبيعي.

لكن لا يخبرنا عِلم النفس التطوّريّ عن فنون الحرب عند الهنود الحُمُر، وأخلاقياتها لأنّها لا تناسب تفسيراتهم، بل الأدهى أنّه أخذ بالسُخرية منها، لأنّ مفهوم الحرب عند الهنود يفتقر إلى عُنصرين أساسيين في الثقافة الحربية الكلاسيكية: القتل والتوسّع في الأرض. ولأنّها أشبه بمهرجانات لاستعراض الشجاعة والبطولة والأخلاق.

وقد دوّن المستعمرون المتوحّشون ملاحظاتهم كالآتي:(راجع كتاب منير العكش بعنوان: أميركا والإبادات الجماعية)

“حروب الهنود كانت للتسلية والرياضة البدنية وليست لإخضاع الخصم. فقد يتحاربون سبع سنين دون أن يسقط بينهم سبعة قتلى. إنّهم يقاتلون في السهول بالقفز والرقص، وعندما يُجرَح واحد منهم، يتوقّف الطرفان عن القتال وينكّب المتحاربون من كلا الطرفين جميعًا على إسعاف الجريح”.

لكن من المقيت إقرار حتمية الحروب والقتل -وإن كانت واقعية- لأبعاد شرعنتها، وقد كتب جورج سانتيانا في كتابه حياة العقل: وحدَهم الأموات شهدوا نهاية الحَرب،، جاعلًا المسألة أمر غير منتهيّ وهو واقعي وصحيح.

ولكن لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن نعتبر هذا الأمر طبيعيّ، وإنّما وإن كان أمر لا بدّ منه، فعلينا على الأقل أن نُؤطّره ونضبطه قدر الإمكان،

ولعلّ أبلغ ما أريد أن أقوله هو ما ورد على لسان، زوجة الطبيب في رواية “العَمَى” لجوزيه ساراماجو حينما رأت ما رأت من فظاعة الإنسان وبعد غياب أي ضمير أخلاقيّ يردعهم، لأنّه لم يعد بإمكان البشر رؤية أفعال بعضهم (وهذا يعيدنا لتفسير فرويد بأنّ الدوافع الخفيّة الحيوانية والبدائية تقبع في الداخل تحت قشرة الحضارة التي يُنافق بها الإنسان) أقول، ما أبلغ ما صاحت به:

إن كُنّا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل أن نفعل كلّ ما بوسعنا كَي لا نعيشَ كالحيوانات !

————————————————————-
|| لكن ما الذي يجمع بين الشخصيات السابقة؟ 
————————————————————-

يُمكِن أن نفهم الجامع المُشتَرَك بين هذه الشخصيات، إذا ما حللناه من خلال منظور عالم النفس وفيلسوف البرغماتية الأمريكي وليم جيمس، حينما يتحدّث عن الإنسان ذي الذهن الصارم Tough-minded، (وهو الإنسان المقابل للإنسان ذي الذهن الرقيق) ويتحدّد هذا الإنسان الصارم من خلال الملامح الآتية:

1. إنسان أُشرِبَ حقائق الحِسّ والملاحظة والتجربة حتى اكتسب عقله هيئة صلبة وماديّة وجافّة

2. عقلية لا تعنى بالجَمال أو أي قيمة فوقية إذا لم يكن بالإمكان فهمها في إطار ماديّ. (لاحظ وفق هذه التصوّر يُمكِن للعقل البرغماتيّ تأييد الدين ودعمه في بعض المواقف إذا كان يؤدّي وظيفة نفعية في الاستقرار النفسيّ أو في تقديم شرعية سياسيّة أو في الدعم الاقتصاديّ)

3. إنسان ذي عقلية مُتبلّدة أمام المُطلَق والقِيَم العُليا ومنظومات الأخلاق.

ففي الحالات السابقة جميعها تشترك هذه الشخصيات بأنّها شخصيات جافة وغير قابلة للردع الأخلاقيّ متى ما تمكّنت من الفريسة أو كانت متى ما بدأت بمُطاردتها، ولعلّ هذا ما يجعل الشخصيات السابقة خاصة في الأفلام (Fargo, No Country for Old Men) مُخيفة أكثر من فيلم رعب حقيقي (قائم على الأسلحة وعنصر المفاجأة) لكن في حالة الشخصيات السابقة، فهي تتصرّف بهدوء، وأكثر ما يُخيف فيها، هي أنّها تتحوّل لآلهة لا يُمكِن إيقافها، كما أنّها لا تُظهر أي تقديس لأي قيمة فوقية أو أخلاقية أو دينية، وتستحضرني هُنا مقولة شعبية “إلّي ما بخاف من الله، خاف منه”.

والجدير بالذكر أنّ الفلسفة الوضعيّة والتي أعادت تعريف المعرفة البشرية والمجتمعات الإنسانية وفق تصوّرات حسّية بحتة وماديّة للغاية، تُعين على إنتاج عقلية جافة من هذا النوع على مستوى أدق التفاصيل حتّى، بحيث تتعامل هذه العقلية مع ما هو كائن وواقعيّ بشكل مُجرّد. وسأذكر القصة القصيرة التالية، والتي حدثت فعلًا، لكي أُبسِّط الأمر قدر الإمكان، وهو ما ذكره الدكتور عبدالله الشهريّ:

أنّه لما أرسل الدكتور عُثمان أمين صاحب الفلسفة الجُوّانيّة، رسالة إلى زكي نجيب محمود (الذي يُعدّ سفير المنطقية الوضعية في العالَم العربيّ)، وكان عثمان أمين يقول بأنّه لا يقف عند حدود الألفاظ وأنّه يقرأ ما بين السطور. فكان ردّ زكي نجيب محمود عليه، بأنّه يقرأ ما بين السطور فلا يجد إلّا بَياضًا !!

————————————————————-
|| لكن ما الذي يحصل؟
————————————————————-

من الُملاحَظ أنّ ما يحصل هو عملية إعادة إنتاج مُستمرّة لهذه المنظومات، الأمر أشبه بحلقة مُفرَغة بين الواقع والعقَل، فالواقع الماديّ يُقوم بإنتاج عقول ماديّة، والعقول الماديّة تقوم بخلق واقع ماديّ، وهكذا دَوالَيك.

إنّها مأساة ناجمة عن تفاعل فلسفيّ مُشترَك، يدور بنفس الإطار، ومُوزّع بين حقول مُختلفة، التنوير، والفسلفة الوضعية، الحداثة، الرأسمالية، الاستهلاكية الداروينية، البرجماتية، الماديّة، الطبيعية، العَلمَنة. إذ يُمكن عدّ جميع المنظومات السابقة والتي تتفاوت في مجالاتها وحقولها، هي الكلمات المفتاحية لفهم ما يجري.

أمّا مُسبّبات هذه الأزمة، فهو أمر معروف يُمكِن أن نصفه بتجلّيات العَلمَنة، وهي:

1. نزع القداسة عن الكون والوجود والذات الإنسانية.
2. نزع القداسة عن القِيَم المُطلَقة والمنظومات الأخلاقية.
3. الإيمان بأسطورة التقدّم اللانهائية، وأنّ التاريخ ما هو إلّا عبارة عن سيرورة لتحقّق العَلمنة واندثار الأديان.

أمّا على المُستوى الشخصيّ، وإذا أردت أن أُجمِل أسباب ما يخلق هذه الأزمة المُستمرّة، بالرُباعية الآتية:

1. التحرّر المُطلق للإنسان والنزوع نحو تأليه نفسه Deification
2.غياب أي منظومة أخلاقية تحكم سلوك الإنسان والحضارة البشرية
3. هيمنة الفلسفة الوضعية على المعرفة والعِلم وتنامي النزعة الماديّة والتجريبية
4. أثر التقنية والتقدّم العِلميّ في اغتراب الإنسان عن ذاته وانشغاله عن قضاياه الكُبرى

وقد تنبّه هوركهايمر وثورنو، في كتابهم “جدل التنوير” لانحراف المشروع التنويريّ عن مساره، إذ أنّ عقل الإنسان في ظل ثقافة يُهيمن عليها ثقافة الاستهلاك والماديّة والبُعد الواحد، يُفضي للوقوع بها واعتناقها عن دون قصد أو وعي، وكان خُلاصة ما ذكروا، أنّه لا يمكن الحديث عن تحرّر حقيقيّ، وعقلانية حقيقية دون أعراض جانبية مُدمّرة للفرد والمجتمع.

وأمّا على مستوى العِلم والتقنية، فأذكر هُنا ما قاله جان جاك روسو، ولاحِظ أنّ روسو عاش في منتصف القرن الثامن عشر أي قبل أن تكون التقنيّة بهذا الشكل المُخيف، وكان روسو مستهجنًا ما الذي يحدث، فأكبر استغراب يُثير القلق حول التقنية هو الآتي، وهو ما قاله:

إنّ ما يكون في البداية مُجرّد رفاهية، سُرعان ما يُصبِح حاجات لا غنى عنها، فنحنُ نكون تُعساء لعدم الحصول عليها، من دون أن نصبح سعداء عندما نمتلكها !!

وكُنت قد ذكرت في أكثر من موضع أنّ إدموند هوسرل قد أشار في كتابه ومحاضراته “أزمة العلوم الأوروبية” أنّ العِلم يُهمّش أسئلتنا الكُبرى ويعتبرها غير جديرة بالتفكير. وهذا يُعيدنا لما ذكره الألمانيّ فيخته من أنّه تمكّن بفضل العِلم والتجربة والحس من فهم كل ما يتعلّق بالعالَم الخارجيّ إلّا أنّه بقي شيء واحد لم يتمكَن من فهمه: “مَن أكون؟ وما الغاية من وجودي؟” !

حتى أنّ داروِن نفسه، في 17 يونيو 1868 أرسل رسالة خاصة إلى صديقه Hooker يشتكي فيها من شعوره بالجفاف الروحيّ، ويخبره فيها أنّ انشغاله الدائم بالعِلم والبحث العِلميّ قد بغّض إليه العِلم.

ففاعلية العِلم الطبيعيّ عالية أمام كل ما هو ماديّ وفي تحقيق الإنجازات التقنيّة ووصف العالَم الخارجيّ، إلّا أنّه في الوقت نفسه يقف ليس حائرًا فقط، وإنّما صامتًا غير مهتم أمام حاجات النفس الحقيقية وتطلّعاتها وأسئلتها الكُبرى (سؤال الذات والهُويّة، النشأة والمصير، الغاية والمعنى) !

بل إنّها لا تكتفي بالصمت والتسخيف من هذه التساؤلات، وإنّما ألحقَت أضرارًا جسيمة في إنسانيتنا وفي تغريبنا عن ذواتنا، وهذا يُذكّرنا بدوره بما قاله جون بودِن، وبه أختِم:

ما فائدة صناعتنا العظيمة، بآلاتها الضخمة، عندما نُصبِح عبيدًا للأدوات الخاصّة بنا !
وعندما نختزل قصة الإنسان في وجود تعيس دنيء!
ما جدوى ما نملك من ثقافة وثروة إذا ما اخترنا أن نكون فرائس دوافعنا البدائية والأنانية؟