صحراء الروح
(1)
كان كلّ شيءٍ يبدو على ما يُرام..وفي داخله صحراء، فيها كائنٌ قاعدٌ على رُكبَتيه
يجلسُ مُمسكًا بقَلبه بين يديه، يأكلُ منه
سألتُه: هل هو طيّبٌ يا صديق؟
أجابني: إنّه مُرّ.. مُرٌّ جدًّا !
مع هذا أُحبّه إنّه قلبي، يبقى قلبي !
– ستيفن كرين
أذكر حينما سافرت والدتي لأوّل مرّة، ذهبتُ لصديقي وأخبرته:
تدخل أعتى معاركك الوجودية، حينما تُريد أن تُقشِّر بُرتقالة لوحدَك ! تدرك قيمة الأُمّ بأمور بسيطة كهذه !
ثُمّ لَم أعد أراه لفترة طويلة، شاءت الأقدار أن يتوفّى اللهُ والدتَه الشابّة فُجاءةً بعد سنواتٍ قليلة، وحينما قابلته، كان أوّل ما قاله لي:
هل تذكر حينما سافرت أُمّك واستعصى عليكَ تقشير البرتقالة !
لقد نظر في عينيّ وفهمتُ جيدًا ما قاله:
أنا يا صاحبي أدخلُ اليومَ مُعتركاتي الوجودية كلّها، دفعةً واحدة، وللأبد !
صدى !
وفي داخلي أصداءٌ كثيرة..
فراغ !
وفي جَوفي ثقوبٌ كبيرة..
سَرَاب !
وفي ذهني أوهامٌ كثيرة
صحراء حيث الروح،
ومتاهة حيث العقل،
وفي الداخل ظلامٌ شديد
قال.. ولَم يُؤلمه شَيء، كما آلمه إخفاءُ آلامه
ونظرتُ إلى نفسي، فأشفقتُ عليها، لا أتعلّم إلّا عبرَ الخيبات
ولا تأتيني الدروس إلّا على هيئة الحُزن والنَكبَات..
(2)
اضحَك وسيضحَك العالَمُ مَعك..
ابكِ، وستبكي لوَحدِك
– Oldboy (2003)
يُقال بأنّ الاكتئاب طريقة إفصاح الروح عن نفسها..
تتكلّم الغرائز عبرَ الحواس، فتتذوّق عند الجوع، وتلمس وترى عند الشهوة..
أمّا الروح، فلا تُفصحُ عن نفسها إلّا حُبًّا أو حُزنًا، إلّا ضَحِكًا أو بُكاءً
قال.. وخيّم صمتٌ طويلٌ على الروح، حتى ظننتُ أنّها هَلَكت.
في الخيبات فقط، في العُمق، تُدرِك معنى العبارات..
قال الإمام النفريّ: إذا اتَسعت الرؤية، ضاقت العبارة !
هكذا الحُزن حينما يصير كثيفًا، تبدأ تُمايز العبارات عن بعضها
تتعلّم جيدًا، فتدرك أنّ الحُزن غير الخيبة والخيبة غير الخذلان
والخذلان غير الأسى، والأسى غير الشفقة
هكذا لا تُسعفكَ العبارات حينما يسألكَ أحدهم: ما بِك؟
ولا تجدُ وصفًا لما بك، فترتجف وتُجيب: حاسس حالي.. كيف بدّي أحكيلك !
(3)
أنا ملك الصَدَى..لا عرشَ لي، إلّا الهوامش
– محمود درويش
مَن يُقيمُ في الهامِش، يصيرُ هشًّا.. وأكثرَ حُزنًا
ولهذا أجدني حزينًا على كلّ ما هو هامشيّ..
– المباني المهجورة
– الأماكن المتروكة
– الأسرى المَنسيون
– الرسائل التي لَم تصِل
– الكلمات التي لَم تُقال
– القادمون بلا استقبال
– الراحلون بلا وداع
– المكالمات التي لَم يُردّ عليها
– الدموع المكتومة
– المشاعر المقموعة
– الأزقّة المُعتمة
– الجَمَال المُهمَل
– القلوب المُحطّمة
– الأرواح المُتلَفة
– الأجساد المعطوبة
– الطقوس التي لا تُمارَس
– العيون التي لا تُقدّس
– الجروح التي لَم تلتئم
– الكراسي الفارغة
– القاعات التي لا تمتلئ
– الأدوات التي لَم تَعُد تُستخدَم
قال وتذكّر الأمر، ففهم جيّدًا، فهَمَس في داخله: رُبّما يُحطّمكَ الهامشيّ، لأنّه يُذكّركَ بنفسكَ.. ولكنّك تخشى الاعتراف
(4)
ثمّة فراغ في الروح…
لا أعلم القائل
مَن ظلّ يحزنُ يا قلبي سواك..
ثمّة فراغ في الروح، وثقلٌ على الكاهل، وانطفاءٌ في الداخِل
يُقال بالحُزن تتحقّق إنسانيتنا..
هل تحزن الجُدران ؟
في مذكراته التي كتبها في السجن، قال المُفكِّر الأبرز، بيجوفيتش: بينَ الحُزن واللامبالاة.. سأختار الحُزن !
ونظرتُ ففهمت: الحُزن مَوقف بشريّ، احتجاج وجودي، انفجار الداخل !
الحُزن تعبير إنسانيّ، كل إبداع تخلّق من الحُزن..
هل يُنتِج الفنّان فنًّا إذا لَم يحزَن ؟
أمّا إذا إطال الحُزنُ المُكوثَ في القَلب وأقام، فإنّه يطردُ كلّ ما سواه..
هكذا فيصير القلبُ فارغًا، قال وتذكّر فؤادَ أمِّ موسى.. فبكى على نفسه وأشفقَ مرّةً أُخرى
فراغ القلب؟
نعم، كل فِراق وكلّ رحيل، كان يملؤ حيّزًا، يصيرُ فراغًا بعدما يرحل مَن نُحبّ، بتعبير Passenger:
Same old empty feeling in your heart !
مَن يُطيق سطوةَ الفَراغ؟ ومَن ينجو من افتراسه؟ ومَن يخرجُ سالِمًا مِن بعده؟
قال وتذكّر وصيةَ أبو فراس الحمدانيّ في نوائب الدهر ومصائبه:
أوصيكَ بِالحُزنِ لا أوصيكَ بِالجَلَدِ ،،
(5)
خجلتُ مِن نَفسي، عندما أدركتُ أنّ الحياة حفلة تنكّرية.. وأنّي قد حضرتُها بوجهي الحقيقيّ…
– كافكا
يُقال أنّ الناس لا تتغيّر، ولكنّها الأقنعة التي تتساقط..
يُعذَر مَن ها هنا، فالعيشُ في أزمنةٍ كهذه يتطلّبُ قدرًا غير يسيرٍ من النفاق..
هذا ما قدّمه لنا إريفينغ غوفمان على طبقٍ من ذهب، حينما قال:
العالَم مسرحٌ كبير، ونحنُ مُجرّد مُمثّلون، اختَر دورَك بعناية، ما سيبدأ كقناع، سيصير لاحقًا وجهُكَ الحقيقيّ !
على سيرة العيش في الأزمنة الصعبة..
يُقال بأنّ الشتيمة التي كانت دارجة في أزمنة الثورة الثقافية الصينية، كانت تعني شيئًا مثل:
أدعو عليكَ بالعَيش في زمنٍ مُمتِع !
هل هذا زمنٌ ممتع؟
هَل نعيش أساسًا؟
هل أصابتنا اللعنة؟
(6)
أبو فراس الحمداني
صبورٌ ولوْ لمْ تبقَ مني بقية ٌ
أضعفُ من أن أُحِبّ
أوحَشُ من أن أُحَبّ
مُجرّدٌ من أسلحتي
مُتمسِّكٌ في تجرّدي
أتظاهر بقُوّتي
اتكِّؤُ على كَسري
أقتاتُ على داخلي
” و ما زلتُ أرضى بالقليلِ محبةً “
(7)
لا يأويكَ إليه… إلّا إذا صَحّ يُتمكَ مِمّا سِواه
– القُشيري -فيما أذكر- (تفسير آية: ألم يجدكَ يتيمًا.. فآوى)
مَن يَشغلُ فراغ الداخل؟
مَن يملأ ثقوب الروح؟
مَن يَعبرُ صحراء القلب؟
مَن يُؤنسُ وَحشة الوجود؟
مَن يُنسينا طولَ الطريق؟
إليكَ وإلّا لا تُشَدُّ الركائبُ
ومنكَ وإلّا فالمُؤمَلُ خَائبُ
وفيكَ وإلّا فالغرامُ مَضيـعٌ
وعنكَ وإلّا فالمُحدِّثُ كاذبُ
(8)
شَيءٌ ما.. يَنمو ويَكسِرُني..
وهذا الشَيءُ يا حُبّي، هُو: أنتِ !
– ألفونسينا ستورني
يُقال أنّ أهم ثلاث أسئلة بشرية، هي:
ممّا هي مصنوعة الروح؟
ما الذي يستحقّ العَيش؟
ما الذي يستحقّ الموت؟
ويُقال أنّ الإجابة عن الأسئلة الثلاثة جميعها، إجابة واحدة: الحُبّ !