الزواج عن حبّ؟ ظاهرة حديثة بالنسبة لتاريخ البشرية

BY: Administrator

هل الحُبّ شرط أساسيّ لنجاح الزواج؟

جميعُنا كان لديه هذا الحُلم في طفولته، حينما أجِد الحُبّ الحقيقيّ، ستسير الأمور كُلّها بسلاسة، تمامًا مثل الحرير، سيكون كُلّ شيء على ما يُرام. إلّا أنّ الواقع في الحقيقة، يُشير إلى أنّ الزواج يتطلّب قدر كبير من التنازلات والتضحيات – راكيل وِلش

إنّ الفكرة القائلة بأنّ الحُب والزواج يسيران سَويًّا دون انفكاك، مثل الحصان والعَرَبة، لا تزال فكرة شائعة وواسعة الانتشار، لكن الحجج ضد هذه الفكرة صارت تتقوّى وتكتسب صلابتها من التجارب الواقعية التي قد تُشير إلى عكس ذلك. وتناول مثل هذه الحجج يتطلّب مِنّا أوّلًا، توضيح ما نقصده بالحُب المَتين.


[عن العلاقة الحديثة بين الحُب والزواج]

إنّ التصّور السائد بأنّ الحُبّ العاطفيّ ضروريّ للزواج، هو في الواقع تصوّر حديث ظهر في الآونة الأخيرة. تُبيّن ستيفاني كونتز (2005) في كتابها “تاريخ الزواج” أنّ هذا التصوّر أصبح سائدًا فقط مُنذ حوالي قرنين. وتقول: “لقد وقع الناس في الحُبّ، على الدوام، وعلى مرّ العصور، أحبّ العديد من الأزواج بعضهم حُب عميق ومليء بالشغف. ولكن تاريخيًا، نادرًا ما كان الحُب العامل الرئيسي للزواج. وتُضيف: كان يُنظَر إلى الحُب، في العديد من الثقافات، على أنّه النتيجة المَرجُوَّة من الزواج، وليس كسبب وجيه ورئيسيّ للزواج في المقام الأول.

بشكل مُماثل، يُشير باسكال بروكنر (2013) إلى أنّ الزواج في الماضيّ كان مُقدّسًا، وأمّا الحُبّ فقد كان ثانويًا ومُلحَقًا، فإذا كان موجودًا فهو أمر إضافي جيّد يُحتَسَب لتلك الزيجة. أمّا الآن، فقد انقلبت المُعادلة، فقد صار يُنظَرُ إلى الحُبّ على أنّه أساسيّ وضروريّ للزواج، فالحُبّ هُو المُقدّس والزواج أمر ثانوي.

وبناءً على ذلك، فإنّ أعداد المُقبلين على الزواج آخذة بالتناقص، في حين أنّ أعداد حالات الطلاق والشُركَاء غير المُتزوّجين، والأُسَر ذات المُعيل الواحِد آخذة بالتزايد. ومّما يُشير إليه بروكنر، أنّ الحُب قد انتصر بالفعل على الزواج، إلّا أنّه قد يُدمِّره من الداخل -أي قد يكون الحُبّ مُدمِّر للزواج نفسه، وفق ما يُمليه من تصوّرات وتوقّعات-

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ هذا التصوّر حولَ الحُب الرومانسيّ، بوصفه ضروري وأساسيّ للزواج، قد رفَعَ من قيمة الزواج وجعل الحُب الأولوية القُصوى في حياتنا. فإنّه في المُقابل قد جَعَل الزواج أكثر تقلُّبًا وأقلّ متانة واستقرار. إذ أنّ هذاالتصوّر يُؤجّج مسألة التخلّي عن الزواج الذي يخلو من الحُبّ العاطفيّ، ويُصبِح هذا المِعيار مَركزيّ بشكل مُقلِق لدى العديد من الأزواج، إذ يُصِبح خيار التَرك والانفصال واردًا لصالح التَسويات الرومانسية التي تُصِبح بدورها القضية المركزية.

أيّ أنّ الأزواج يُصابون بهاجِس مُقلِق بضرورة الرومانسية والحُبّ العاطفيّ في زواجهم، ومتى ما فقدت العلاقة الزوجية عُنصر الشغف والحُبّ، صار الأمرُ مُقلِقًا، وصار خَيار الترك والانفصال وارِدًا، فالأساس هي الرومانسية وليس الحُبّ، ومِن هُنا تُقدّم التنازلات لصالِح الرومانسية، فانفصال بما تبقّى من شغف ورومانسية، خيرٌ من زواج يفتقر لأيّ عاطفة وحُبّ.

وهذا بحدّ ذاته خطير، فالعلاقة التي تتأسّس على احتمال التخلّي والاستغناء تُقلِّل من فُرَص الحلول العقلانية، إذ الناس في الأزمات والمشاكل تميلُ إلى اتخاذ أسهل الحلول وأقصر الطُرُق، وفي الغالب ووفقًا لعلوم النَفس السلوكية، فإنّ معظم الناس يميلون إلى الهَرَب ممّا يُقلقهم بدلًا من مواجهته، ويميلون إلى التخلّي عمّا يُزعجهم بدلًا من مقارعته. وطالما بقي خيار الهرب والتخلّي عن كلّ شيء مُتاحًا طوال الوقت، فهذا سيحول دون بذل جُهد حقيقيّ للبقاء ولتحديد مكامن الإشكال.


[اعتراضات على التصوّر السابق]

لَم أكن أعرِف أبدًا ما هي السعادة الحقيقية، حتّى تزوّجت. وعندما أدركتُ ذلك، كان الأوانُ قَد فات. – ماكس كوفمان

هُناك نَوَعان رئيسيان من الاعتراضات يُمكن توجيهها للتصوّر القائل بأنّ “الحُبّ هو جَوهر الزواج وأساسيّ له” :

لا يقتصر الزواج على المستوى العاطفي فقط. فالزواج إطار معيشيّ ونظام حياتيّ يتضمّن عوامل مُهمّة أُخرى إلى جانب الحُب. إنّ الحُب العاطفيّ تجربة قصيرة المَدَى نسبيًا ومحدودة زمنيًا بالنسبة لباقي جوانب حياتنا. إن الهِيام والشغف على أهمّيتها ليست سِوى أمور لحظية ومُؤقّتة، وتحتلّ -على جمالها-جُزء يسير من حياة المَرء. وبالتالي فإنّ النواحي الأُخرى للحُب، تلك التي يُمكِن وصفها بأنّها طويلة المَدَى، قد تكون ذات أهمية أكبر.

تُشير المجموعة الأولى من الاعتراضات إلى أنّ الزواج إطار اجتماعيّ يتواجد ضمن ظروف اجتماعية واقتصادية مُعيّنة، وأنّ رفاه الزوجين مُرتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية، ويجب أن يتمّ أخذ ذلك بعين الاعتبار. أمّا المجموعة الثانية من الاعتراضات، تُشير إلى أنّ الحُبّ العاطفيّ غير مُستقرّ، انفعاليّ، قصير، وعابِر. وهذا ما يتعارَض مع طبيعة الزواج، فالزواج بطبعه مليء بالروتين، ومُستقرّ وطويل المَدى.

ويقودنا الجَمع بين هذه الاعتراضات حول الادّعاء بأنّ الحُب هو جوهر الزواج وأساسه، إلى أنّ هذا التصوّر لا بُد وأن ويُؤدّي إلى خيبات الأمل وإلى التنازلات الرومانسية.

ومن خلال تعريفنا للزواج بأنّه إطار معيشيّ ونظام حياتيّ، يبدو واضحًا أنّ هُنالِكَ ما هو أكثر أهمية بكثير من مُجرّد الحُبّ للزواج وللالتزام بعلاقة مع الآخر. فالإقدام على الزواج يجب أن يأخذ بعين الاعتبار جوانب إضافية، على سبيل المثال: إذا ما كان الآخر الذي سأُقبِل على الزواج مِنه مِعطاءً وكريمًا، أو إذا ما كان سيكون أبًا أو ستكون أُمًّاجيّدة لأبنائي. وبالفعل، عبر التاريخ كان الزواج يُعتَبَر نَوعًا من الصَفَقات التي يجب أن تُحسِّن أو على الأقل، لا تَضُرّ بوضع وظروف الشَخص المُقبِل عليها اجتماعيًا واقتصاديًا. (ولهذا السبب، وعلى اختلاف القصص المذكورة حول سندريلا ونمط الزواج الرومانسيّ، فإنّ الزَواج القائِم على الحُبّ كان أمرًا نادرًا في الماضي). إنّ الزواج الذي ينطلق بدافع الحُبّ العاطفي، قد وأقول “قد” يُعمي المَرء عن الجوانب الأُخرى المُهمّة للزواج. ولهذا يُقال بأنّ “مَن يتزوّج بدافع الحُب، سيحظَى بليالٍ جيّدة وأيّامٍ سيئّة”. فبالليل، حيث السرير وحيث العاطفة والشغف والدِفء والعَلاقة الحميمية، وهُنا يُسعفنا الحُب أيّما إسعاف. أمّا النهار فمسؤولية وانشغال وواجبات وهو ما قد يتطلّب أكثر من الحُبّ، وأكثر من الشغف. وحول هذا الأمر تُشير ستيفاني كونتز إلى أنّ عصر التنوير قد أثار الرأي القائل بأنّ “الحُبّ يتطوّر ببُطء، بفعلِ الإعجاب والاحترام والتقدير الذي نُكنّه تجاه شخصية إنسان ما”

مُعظَم الظروف الخارجية التي تُلقِي بثِقَلِها على اتخاذ قرار الزواج، على اختلاف أشكالها وأنواعِها، ترتبط في جوهرها بالظروف الاقتصادية والاجتماعية. في مُجتمعاتنا، يبدو أنّ قيمة الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية من أجل الزواج آخذة بالتقلّص، بينما يتزايد الاعتناء بمعيار الحُبّ كمعيار رئيسي للزواج. فأهمية الحُب من أجل تأسيس رابطة الزواج وضمان ديمومته، يبدو المِعيار الأهم والأبرز لحضارتنا وحياتنا المُعاصِرة. حيث تميل المُجتمعات اليوم لتحصيل مُستوى معيشي واقتصادي أعلى، في مقابل ارتفاع لمُعدّلات الطلاق وانخفاض لمُعدّلات الخصوبة والإنجاب. (Berscheid,2010)

في ضوء التحسّن العالم في الظروف المعيشية في المُجتمعات الحديثة، يبدو مفهومًا السبب وراء انخفاض قيمة الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية لاتخاذ قرار الزواج، بينما يُعطَى معيار الحُب، النصيب الأكبر من الاهتمام. ومع هذا فإنّه لا يُمكن الادّعاء بأنّ أثر الظروف الاقتصادية والاجتماعية قد اختفى بالمُطلَق وإنّما ما زالت تحظى بتأثيرها، كعوامل مُساندة تزيد من الحُب. فمن السهل أن يقعَ العديد من الناس في حُب أولئك الذين يملكون مُستوىً مُرتَفع وجيّد اجتماعيًا واقتصاديًا. إذ قد يبدو لهم الأشخاص الذين يتمتّعون بأحوال اجتماعية واقتصادية جيّدة، مرغوبين بشكل أكبر، بل وحتّى أكثر جاذبية من الناحية الجِنسية.

اعتقد أنّ كُلّ الاعتراضات السابقة ستزول إذا ما ميّزنا بين الحُب الكثيف والحُب المَتين.


[حَل الاعتراضات]

لا يُوجَد بديل عن الراحة التي تُوفّرها العَلاقات المُتَعارَف والمُتفّق عليها – آيريس مردوخ

يتطلّب الربط بين الحُبّ والزواج، التميير بين الحُبّ العاطفيّ الانفعالي والكثيف، وبين الحُبّ العاطفيّ العميق والمتين. لا يتولّد الشعور فقط من اختبار تجربة عاطفية حادّة وكثيفة مِرارًا وتكرارًا (رُغم أنّه قد بات من شبه المُؤكّد عِلميًا أنّ تكرار العادات الصغيرة والمُؤقّتة، قد يُؤدّي إلى إعادة تشكيل سلوكياتنا وتصرّفاتنا بشكل دائم). قد تدوم نشوة الرغبة الجِنسية الكثيفة لفترة ولكن فترة قصيرة جدًّا. أمّا الحُب العميق، فيمتدّ صداه ويدوم أثره، ويُلوّن مِزاجنا وسلوكياتنا بل وحتّى الطريقة التي نرتبط بها مع الزمان والمكان.

الرومانسية التي تتولّد خلال الحُب العاطفيّ الانفعالي، تُعبّر عن كثافة المشاعِر اللحظيّة، إنّها مشاعر جميلة للغاية، جُرعة حادّة وكثيفة من الشعور والنشوة. أمّا الحُب العميق، فهو يُجسّد تكرار هذه اللحظات الكثيفة والحادّة من المشاعر، على فترات طويلة من الزمن، تمتدّ من التجربة ذاته، إلى جميع أبعاد الحياة الأُخرى، مما يُساعد أفراد العلاقة على الازدهار والنماء. وبهذا يتضمّن الحُبّ العميق التفاهم الرومانسيّ والانخراط بأنشطة مُشتركة، تُلبّي الاحتياجات الأساسية للزوجين، ما ينتج عنه ازدهار طويل المدى، وليس انتشاء لحظيّ كثيف وعابر. تختلف تجربة الحُب العميق عن الطريقة التي نشعر بها بالحُبّ الانفعاليّ والكثيف. الحُب الانفعاليّ والكثيف مثل الرغبة الجنسية، قد يكون أكثر قُوّة وحِدّة شعوريًا من تجربة الحُبّ العميق، لكنّه أقلّ عُمقًا. الحُب الانفعالي كثيف لكنّه سطحي، وحادّ لكنّه لحظيّ. أمّا الحُب العميق فيضرِب بجذوره أساس العلاقة ويعقدها داخليًا ويقُوّي أواصرها.

وبالتالي كُلّ الاعتراضات السابقة والمذكورة أعلاه حول أنّ الحُب ليس جوهر الحياة الزوجية بالضرورة، وليس أساسيًا لها، ستكون صحيحة، فقط في حالة الحُب العاطفيّ الانفعاليّ، وليس في حالة الحُب العميق والمَتين. لقد لخّصت سوزان بيز غادوا Gadoua الاعتراضات السابقة بثلاثة نقاط:

– الحُب عاطفة مُتقلِّبة ومُتغيّرة.

– الحُبّ لا يُشكِّل أساسًا صَلبًا لعلاقات دائمة.

– الحُبّ بعيد كُل البُعد عن “كُل ما تحتاجه”.

(أيّ أنّنا نحتاج في علاقاتنا لأكثر من مُجرّد الحُبّ، فقد يَحبنا شخص ويكون بخيل، فيُجعل من التفاصيل اليومية مصدرًا للإزعاج والبؤس).

إنّ الارتباط بشخص على أساس الحُب العاطفيّ الانفعاليّ والكثيف فقط. في الوقت الذي يتمّ فيه تجاهل مستوى ذكاء الشخص مثلًا أو مقدار لُطفه في تعامله مع الآخرين، يُمكِن أن يُفلِح كقرار رومانسيّ على المَدَى القصير فقط. إذ أنّ سلوكياته وتصرّفاته الأُخرى قد لا تظهر طالما أنّ العلاقة لحظية وعابرة ولا تمتدّ خارج السرير أو الهاتف أو المحادثة. أمّا إذا تجاهلنا هذه الاعتبارات، ومضينا قُدُمًا في اتخاذنا القرار بالارتباط مع هذا الشخص للأبد، أو لمدى بعيد وطويل، فإنّ حياتنا بذلك ستكون كارثة رومانسية، مليئة بالبُؤس والأسى.


لا شكّ أنّ الحُب يحتلّ مكانة مركزية في حياتنا، وينبغي له أن يكون، وأن نأخذه بعين الاعتبار حينما نُقرّر الارتباط والزواج. مع ذلك فلا يُمكن للسعادة طويلة الأجل، والعلاقة المُتشبّعة بالمَعنى والمَغزى، أن تتأسّس على العاطفة الكثيفة وحدها. بل يجب أن تتأسّس على عناصر الحُب العميق، والذي يتضمّن الأنشطة المُشتركة والاهتمام والرعاية والإنصات للآخر وتقديم التضحيات.

أو كما قال ميجنون ماكلولين McLaughlin:

الزواج الناجِح يتطلّب الوقوع في الحُبّ على الدوام ومرّاتٍ عديدة، في الشخص نفسه.

 

مقال مُترجَم، بتصرّف غير قليل وتعليقات وتعقيبات جانبية