تشريح الدولة (2): سرقة الإنتاج والتحالف مع المثقّفين
هذا المقال استكمال وتتمّة للمقال الذي سبقه، وهو ترجمة لكتاب موراي روثبورد، بعنوان تشريح الدولة Anatomy of State.
[ الكيفية التي تُحافظ بها الدولة على نفسها ]
إنّ المُهمّة الرئيسيّة التي تُوكِلُها الدَولةُ لحُلفائها من المُثقّفين، هي:
إقناع الناس بأنّ الحكومة التي بين أيديهم، وبأنّ الدولة التي تحكُمهم هي خَيار حَتميّ وضروريّ لا بُدّ منه وبأنّها أفضل من أي بديل آخر يُمكن تصوّره.
– موراي روثبورد
ما إن تتأسّس الدولة حتى تُصبِح القضية الرئيسيّة التي تشغل الطبَقة الحاكمة، هي كيفية الحِفاظ على حُكمها واستدامته. وفي حين أنّ العُنف والقُوّة هي طريقة عَمَل الدولة نفسها وأنظمة الحُكُم على المُستوى الآنيّ واللحظيّ، إلّا أنّ مُشكلتها الأساسية تكمُن في تحقيق استقرارها على المَدى الطويل وهذه المُشكلة هي في الغالِب، مُشكلة إيديولوجيّة. إذ يجب أن تحظى الحكومة (أيّ حكومة، وليس بالضرورة أن تكون حكومة ديمقراطية) بدَعم وتأييدِ أغلبية رعاياها، إذا ما أرادت الاستمرار في الحُكم. ويجب أن يُؤخَذ بعينِ الاعتبار، أنّ هذا الدَعم والتأييد لا يبنغي أن يكونَ دَعمًا حَماسيًا وانفعاليًا ولَحظيًا، ولا أن يكون مُجرّد خضوعٍ بَليد كما لو كان الانصياع لهذه الحكومة تحديدًا، قانونًا حَتميًا، لا مَفرّ منه. إنّما الدَعم المطلوب، هو ذلك الدَعم الذي يتم بمُوجَب قَبول ورِضا الرَعايا والمُواطنين، بما تعنيه كلمة “القَبول” من معنًى، وإلّا فإنّ الأقلّية التي تُشكِّل نظام الحُكُم في الدَولة سيتمّ إبعادها في نهاية المَطاف، بفِعل المقاومة الفعليّة لغالبية السُكّان.
وبما أنّ الدَولة تقتات على فائض الإنتاج ونَهبه، فإنّه مِن المنطقيِّ أن تكون الطبقة التي تُشكِّل الدولة ونظام الحُكُم (تلكَ الطبقة البيروقراطية) بالإضافة إلى طبقة النُبَلاء، أقلّية صغيرة بالنسبة لغالبية السُكّان وبالطبع ستقوم هذه الأقلّية الحاكمة بشراء وَلاء العديد من الجَمَاعات الهامّة وذات الثِقَل المُجتَمعيّ من السُكّان. ولذلك، فإنّ مُهمّة الحُكّام الرئيسيّة على الدوام، هي ضمان الرِضا الفعليّ أو المُستكين لغالبية المُواطنين.
من المُؤكّد أن هُناكَ طريقة واحدة للدَولة يُمكن من خلالها تأمين الدَعم وكسب التأييد وهي من خلال خَلق مَصالِح اقتصادية مُشتَرَكة. ومن هُنا، لا يستطيع المَلِك أن يَحكُمَ لوَحده وإنّما يجبُ أن يكونَ لَديه مجموعة كبيرة من الأتباع الذي يتمتّعون بمؤهِّلات أساسيّة للحُكم، منهم على سبيل المثال: البيروقراطيين والنُبلَاء. ومَع هذا فإنّ مثل هؤلاء الأتباع لا يُشكّلون في الحقيقة، إلّا أقلّية من المُؤيِّدين المُتلهِّفين للدَولة وحتى لو أضفنا إليهم، أولئكَ الذين يتمُّ شراؤهم عبرَ المَعونات والمَكرُمَات وغيرها من الامتيازات، فإنّهم لا يزالون لا يُشكّلون الأغلبية ولا يضمنون رضا غالبيّة السُكّان وصَمتَهُم.
ومن أجل تحقيق قَبولِ الأغلبية ورِضاهُم عن الدولة، يجبُ إقناعَهم بالإيديولوجية القائلة بأنّ حُكومَتهُم هي حُكومَة جيّدة وحكيمة أو إقناعهم بأنّها على الأقلّ، أفضل من أي بدائِل أُخرى يُمكن تصوّرها. وستقع مُهمِّة ضَخ وبَثّ هذه الأيدولوجية على عاتِق المُثقّفين وستكون المُهمّة الاجتماعية الحيويّة لهم: إقناع الناس بأنّ الحكومة التي بين يديهم، وبأنّ الدولة التي تحكُمهم هي خَيار حتميّ طبيعيّ لا بُدّ منه وبأنّها أفضل من أي بديل آخر مُمكن. وبالنسبة لعُموم المُجتمع وغالبية الناس الذين لا يخلقون تصوّراتِهم الخاصّة ولا يُشكّلون أفكارهم الشخصية، فإنّهم يتّبعون ضِمنًا الآراء التي يتبنّاها ويُنشرُها المُثقّفون في مُجتمعهم. مِن هُنا، فإنّ المُفكِّرين هُم “صُنّاع – الرأي” في المُجتَمَع. ولما كانت الحاجة ماسّة بالنسبة للدَولة لصناعة الرأيّ العام وتشكيله، فسيُصبحُ من المفهوم بالنسبة لنا، أساس التحالف القديم بين الدَولة والمُثقّفين.
قد يكون مِن الواضح ومن المفهوم بالنسبة لنا، حاجة الدولة إلى المُثقّفين، أمّا ما قد يُشكِّل لنا الغموض وممّا قد لا نجده مفهومًا، هو: لماذا قد يحتاج المُثقّفون إلى الدولة! وببساطة، بإمكاننا القَول أنّ رِزق المُثقّفين ومَعاشهم ليس آمنًا ولا مُستقِرًّا في السوق الحُرّ أبدًا، وعلى المُثقّف أن يعتمد على القِيَم والخيارت التي يتخذها أمثالُه من المُثقّفين. بالإضافة إلى أنّ الجماهير والعَوام غالبًا لا تهتمّ بالقضايا النُخبَويّة ولا بقضايا المُثقّفين بشكلٍ عام. أمّا الدولة، فهي على النقيض من ذلك، فهي مُستعدّة لأن تُوفِّر للمُثقّفين مراكز آمنة ومناصب دائمة في جهاز الدولة. وبالتالي تأمينهم بدَخلٍ ثابت بالإضافة للهَيبة والمكَانة الاجتماعيّة الرفيعة. وسَيُكافَأ المُثقّفين بذكاء على الوظيفة المُهمّة التي يقومون بها لصالِح الدَولَة والطبقة الحاكمة، تلك الطبقة التي قد صاروا الآن جُزءًا منها.
إنّ التحالف بين الدولة والمُثقّفين يُمكِن تجسيده بالرغبة الشغوفة لأساتذة جامعة برلين في القرن التاسع عِشر حينما شكّلوا ما اصطلحوا على تسميته بـ “الحَرَس الثقافيّ والفكِريّ لآل هوهنتسولرن” (وهو أحد أهمّ البيوت الحاكمة في ألمانيا والذي تنتمي إليه العديد من الأُسَر الحاكمة لعدّة مناطق هناك، وهي قلعة تقع على سفوح جبال جورا شفابن في ألمانيا). ومن المُمكن أن نُلاحظ تعويل العديد من المُثقّفين على الامتيازات التي تمنَحُهّا إيّاه الدولة، إذا ما أخذنا على سبيل المثال، التعليقَ الصَريح لأحد العُلَماء الماركسيين البارزين، حيثُ علّق على دراسة بعنوان “الاستبداد الشَرقيّ” وهي دراسة نقدية للبروفيسور كارل ويتفوغِل، قائلًا: “إنّ الحضَارة التي قام البروفيسور ويتفوجل بمُهاجمتها مهاجمةً شَرِسَة للغاية، هي تلَك الحضارة التي كان بإمكانها أن تجعلَ من الشُعرَاء والباحثين والأكاديميين، مسؤولين رَسميين”.
ورغم أنّ الأمثلة كثيرة ولا يُمكِن حَصرُها، فلعلّنا نستشهد بالتطوّر الأخير في مجال العِلم، وتحديدًا: “العلوم الاستراتيجيّة” التي تُكرَّس لخدمة ذراع الحُكومة الرئيسيّ في ممارسة العُنف، ألا وهو: الجيش. وفوقَ هذا كُلّه، فإنّ المُؤسّسة الرسمية المَعنية بالتأريخ والتدوين، تتبَع للدَولة، بحيث تكون مُكرّسة لتوثيق وتدوين آراء السُلطَة وحُكّام الدَولة ووجهات نَظرِهم وأفعالِ أسلافهم وأجدادهم (وتصويرها كأفعال حكيمة وخيّرة وتمجيدها).
لقد كانت كثيرة ومُتنوِّعة، هي الحِجَج والذرائع التي وجّهتها الدَولة ومُثقفّوها إلى الشعب من أجل كسب دعمهم وتأييدهم. ويُمكِن إجمال هذه الحِجَج كالتالي:
(أ) الطبقة الحاكمة وُحكّام الدَولة، هُم أكثر حِكمة و أكبر عظمة بكثير مِنَ الرعايا البُسَطَاء، إن الشعوب جيّدة لكن الحُكّام أكثر حِكمة وذكاءً (فالحُكّام كانوا غالبًا، مَن حكموا: بإسم الحَقّ الإلهيّ، أرستقراطية القَومِ وأشرافهم، الخُبراء والعُلماء والحُكماء).
(ب) الدولة التي تحكم الآن، هي على وجه التحديد، ودونَ غيرها، دَولة ضروريّة لا بُدّ مِن وجودها. وأفضل بكثير من الشرور والعواقِب الكارثية التي لا يُمكِن وصفها، التي تترتّب على سقوط الدَولَة ونظام الحُكم الحالي (العواقب الكارثية: الفتنة والاقتتال والفوضى والحروب الأهليّة..).
وقد كان الحِلف بين الدَولة والكَنيسة أحد أقدم وأنجح هذه الأجهزة الأيدولوجية. فالحاكِم إمّا أن يكون مُباركًا ومُعيّنًا من قِبَلِ الإله نفسه أو نائبًا عنه. وفي حالات أُخرى، يكون الحاكِمُ هو نفسه الإله، كما في حالة الحُكم المُطلَق لكثير من أنظمة الاستبداد الشَرقيّ، وعندها فإنّ أيّ مُقاومة لحُكمه أو رفض لقرارته إنّما هي كُفرٌ بالله وكُفرٌ بقدره وحِكمَته. لقد أدّى كهنة الدولة الوظيفة الأساسيّة نفسها التي يقوم بها المُثقّفون اليَوم، تلكَ المُتمثِّلة بالحصول على الدَعم الشعبيّ للدَولة وتقديس الحاكِم وتمجيده.
حِيلة أُخرى ناجحة، تستخدمها الدَولة كأداة لتثبيت حُكمها وهي: غَرس الخَوف من أيّ أنظمة حُكُم بديلة أو تخويف الشعوب من فكرة أن لا يكونَ هُناكَ سُلطَة أصلًا. إنّ الحُكّام الحاليين وعبر بقائهم في السُلطَة، إنّما يقومون بتوفير خدمة أساسية للمُواطنين، يجب عليهم أن يكونوا مُمتنّين للحُكّام بفضلها، ألا وهي: حماية الناس من المُجرمين والقَتَلة وقُطّاع الطُرُق. أمّا بالنسبة للدَولَة فهي بذلك تُحافظ على احتكارها الخاصّ للعُنف والنَهب، فقد حَصَرت الجريمة العشوائيّة وغير المُنظّمة ودفعتها إلى أدنى حدودها، ولطالما كانت الدَولَة غَيورة على مَحمّيتها ومنطقتها التي تحتكرُها.
وقد نجحت الدولة، في القرون الأخيرة بشكل خاصّ، في ترسيخ الَخوف من حُكّام الدُوَل الأُخرى. وبما أنّ مساحة الكُرّة الأرضية قد تمّ تقسيمها بين دولٍ مُعيّنة، فإنّ أحد الاتّجاهات الرئيسية للدَولة هي أن تُعرِّف نفسها بالمنطقة والأراضي التي تحكُمها وتُسيطر عليها. وبما أنّ غالبية الناس تميل إلى حُبِّ أوطانها، فإنّ التعريف الذي يضع الأرض وسُكّانها والدولة في خانة واحدة، هو وسيلة لتوظيف الوَطنية وحُبّ الوَطَن لصالح الدَولّة ولمصلحة نظام الحُكم.
فإذا كانت دولة “روريتانيا” (إسم مُفتَرَض) تتعرّض للهُجوم من قِبَل دولة “فالدافيا” (إسم مُفتَرَض) على سبيل المثال، فإنّ المُهمّة الأولى للدولة ومُفكِّريها ومُثقّفيها هي إقناع الشعب الروريتانيّ بأنّ الهُجوم كان مُوجّهًا للشعب نفسه ولأرضهم وليس فقط للطبقة الحاكمة ونظام الحُكم. بهذه الطريقة تتحوّل الحَرب، مِن حَربٍ بين الحُكّام إلى حَربٍ بين الشعوب، ولهذا تهبّ كلّ الشعوب وتنطلق للدفاع عن حُكّامها، لاعتقادهم وظنِّهم الخاطِئ بأنّ الحُكّام كانوا يُدافعون عنهم وعن أرضهم. وقد نجحت هذه الحيلة والأداة بإسم “القومية” في استغلال عواطف الناسِ وانفعالاتهم، بالقرون الأخيرة للحضارة الغربية. ومنذُ وقت غيرَ بعيد، بدأ العديد من الأشخاص والشعوب بالنظر إلى الحُروب باعتبارها معارك مختلفة بين مجموعات مُختلفة من النُبلَاء والمُتنفِّذين.
كثيرة وماكرة هي الأسلحة الأيدولوجيّة التي استخدمتها الدولة عبر القُرون. أحد الأسلحة التقليديّة المُمتازة بالنسبة للدولة والذي تزداد قُوّته، كُلّما تمكّنت الدَولة من الحِفاظ على حُكمها واستدامته، هو سلاح الامتداد التاريخيّ للأُسرة الحاكمة أو نظام الحُكم، بحيث كُلّما ازدادت عَراقة سُلالة العائلة الحاكمة الفُلانيّة، أو كُلّما طال حُكُم الدَولَة، فهذا يعني أنّ لديها إرثٌ كبير ولديها ثِقَل واضح لقرون من الأمجاد والعَراقة التي تقف وراءَها. وهكذا يُصبِح تمجيد الأسلاف والإرث التاريخيّ للدَولة وللأُسرَة الحاكمة وسيلة مُعلَنة وغَير خفّية للدَولة (لاكتساب شرعيتها).
إنّ أشدّ خَطَر يُهدّد الدَولة هو: النقد العقلانيّ المُستقَلّ والنَقد الفِكريّ الحُرّ. ولا تُوجَد طريقة لقمع وإخماد هذا النَوع من التهديد ولإخماد أيّ محاولات نقدية أو أيّ أصوات تشكيكيّة أو مُعارِضَة، أفضل مِن وصفها بأنّها مُحاولات تدنيسيّة لإرث الأجداد والأسلاف. ويُساند هذا كُلِّه، أداة فعّالة أُخرى تستخدمها الدَولة وهي الانتقاص من قيمةَ الفَرد وإهماله، وتمجيد الجَمَاعة والأكثريّة. وبما أنّ وجود أيّ نظام حُكم ووصوله إلى السُلطَة يتطلّب مُوافقة الأغلبيّة، فإنّ أي تهديد أيدولوجيّ لهذا الحُكُم ولنظام الحُكم القائم لَن يصدُر إلّا من شخص واحد أو عدد قليل من الأفراد المُستقلِّين و المُثقّفين الأحرار.
إنّ أيّ فكرة جديدة وأيّ فكرة نقدية وإن لَم تكُن جديدة تمامًا، تتأسّس في بدايتها كَرأيٍّ لأقلّية صغيرة. ولهذا فإنّ الدَولة تحاول وَأد هذه الحَركات وهي في مَهدِها، عبر السُخرية منها وإدانتها بوصفها آراءًا تتحدّى رأيَّ المُجتمَعِ وبوصفها أفكارًا وتُقلِّل من شأنِ الأكثرية ومن أفكارِها. وهكذا تسحَق الدَولةُ، المُعارَضة الفردية بأسلحتها الأيدولوجية وباستخدامها عبارات من نوع: “أصغِ لإخوَتِك، لستَ أذكى منهم، لا تكن شاذًّا عن مُجتمعك، لا تُخالِف الجماعة، لا تُثِر الفِتَن، قلائل مُندَسّة.. إلخ”. وبهذه الطريقة لا يُمكِن للجماهير وللعَوام أن ترى عيوب السُلطة ولا أن تُعرّيها من زَيفها. (وَحدَه النَقد، يُعرّي السُلطَة، وبدون النَقد، لَن يستطيعَ الناسُ أن يَروا عيوبَ السُلطَة واستبدادها).
ومن المُهم أيضًا بالنسبة للدَولة أن تُظهرَ حُكمَها باعتباره أمرًا ضروريًّا لا بُدّ منه، حتى وإن لَم يَكُن مَرغوبًا به، وإلّا سيُقابَل النظام بالمُقاومة الضِمنية، كتلكَ المقاومة التي يُحدثها تزاوج المَوت بالضرائب والفَقر (وإن كانت الناس تفهم مُبرّر وجود السُلطة وكانت ترضى عنها ابتداءً، فإنّها حينما تُواجه الضرائب والفقر والمَوت لفترة طويلة، فإنّها تقاوم النظام وتمانعه وتثور ضدّه ولو بعد حين).
ومن الأمثلة والتطبيقات على هذه الطُريقة، تأكيد الدَولة على الحتمية التاريخيّة وإقناع الناس بها، بدلًا من التأكيد على الحُرّية والإرادة الحُرّة. فإذا حَكَمتنا العائلة الفُلانية، فإنّ هذا يعود لقوانين التاريخ والسُنَن الحضاريّة التي حكمت بذلك (أو ما يُماثلها: الإرادة الإلهية قد قضت بذلك، أو القُوّة المُطلقة هي التي حَكمَت بذلك، أو قوى الإنتاج الماديّة أدّت لذلك..). وبالتالي: مَن أنتَ أيُّها الفَرد “الضئيل” لتُجابه هذه السُنّة التاريخيّة؟ ومَن أنتم أيّها الكائنات البشريّة المُتواضعة لتواجهوا وتُعارِضوا هذا المَسار الحَتميّ الذي لا مفرّ منه ولا رادّ له !
وتحاول الدَولة أيضًا، أن تطبعَ في أذهانِ رعاياها نفورًا من أيِّ تفكير مُؤامراتيّ واستهجانًا لأيّ اعتقاد بوجود مؤامرة تاريخيّة، لأنّ البحث عن المُؤامرات يعني البحث عن الدوافع والمسؤولين عن الأفعال التاريخيّة والمصائب عبر التاريخ. ويُسانِد هذا الانطباع، تعزيزُهَا بالأداة التي سبَق ذكرها، فإنّ كُلّ الاعتداءات والحروب والطُغيان الذي فرضته الدَولَة على رعاياها سببها قِوى اجتماعية غامضة، وسُنَن تاريخيّة كامنة، وقصور طبيعيّ للقوانين الحتميّة، عندها لا تعود الدولة مَسؤولة عن أيّ جريمة ولا عن أي اعتداء ولا أيّة كارثة.
وهكذا يصير “الجميع قَتَلة” والجميع شُركَاء بالجريمة، ولا يحقّ لأحد أن يسخط على مثل هذه التجاوزات والجرائم، ولا أن يحشدوا أو يثوروا ضدّها. وعلاوةً على ذلك، فإنّ الهُجوم على “نظريات الدَولة” سيجعل من الناس أكثر عُرضَة للخِداع وأكثر سذاجة لتصديق مُبرّرات الدَولة لأفعالها الاستبداديّة، تحت مُسمّى تحقيق “المصلَحة العامّة”. وأضِف لهذا كُلّه أنّ نظريّات المُؤامرة، قد تُؤدّي بدورها إلى زعزعة النظام من خلال جَعل العَوَام يشكّون بالدعاية الإيديولوجيّة للدَولة.
هُناكَ طريقة أُخرى مُجرّبة وفعّالة لثنيّ الأشخاص عن مُعارضة إرادة الدَولة، ألا وهيّ: تأنيب ضميرهم وإشعارهم بالذنب. إذ يُمكِن مهاجمة أي نُموّ وزيادة في الرَفَاه والمُلكيّة الخاصّة عن طريق وصفها بـ “الجشع غير المعقول” أو بـ “الثراء الفاحش” أو بأنّ “أصحابها مادّيون” وهكذا تُوصَم كُلّ محاولات تحقيق الأرباح الخاصّة بأنّها استغلاليّة وانتهازية ورِبًا فاحش. ويُوصَم كُلّ إنتاج وتبادُل بأنّه “أنانية” غير مُبرّرة، وتُستَتبَع هذه الاتّهامات دائمًا، باستنتاجات من قَبيل: علينا أن نُقلِّل من استنزاف الموارد واستغلالها ويجب أن تُدخّر هذه الثروات وتُقتَصّ من القطاع الخاصّ لصالح القطاع العام. (أيّ لصالح الدولة نفسها ولصالح الطبقة الحاكمة).
إنّ الشعور بالذنب، وشعور الناس بأنّهم يُسرِفون، يجعلهم أكثر استعدادًا لمُطاوعة الدَولة في نَهبها واستغلالها. فبينما يميل الأفراد للانخراط في تنمية ثرواتهم والانغماس في “الجشع الأنانيّ” -كما تصفه الدَولَة لهم-، فإنّ عجز الدَولَة وفشلِ حُكّامها بالمُشاركة في التبادل السِلميّ للإنتاج يدفعها لتلجأَ إلى وسائلها الأصيلة: الافتراس الطُفيليّ والنهب القسريّ، وهي طرائِق تبدو للدَولَة نفسها أكثر منطقية وانسجامًا مع كيانها، إذا ما قُورِن ذلك بأعمال الإنتاج والتبادل السِلميّ (وهي خيارات مُرهقة ومُستبعَدَة لكائنات تطبّعت بأنماط العَيش الطُفيليّ والاتّكاليّ والقهريّ).
أمّا العَصر الحاضر، فهو أكثر عَلمَانية، إذ استُبدِلَ “الحقّ الإلهيّ” للحُكم، بإله جديد يُنادَى به، ألا وهو: العِلم. لقد صار حُكم الدَولة اليوم يُوصَف بأنّه عِلمويّ، باعتباره حُكُم يُدار من قِبَل مجموعة من الخُبراء والعُلَماء. وبالرغم من أنّه قد صارَ يُحتجُّ بالعَقلِ ويُستدلُّ به، أكثر من القرون السابقة، إلّا أنّ الفرد لا يُمارِس إرادته الحُرّة بشكل عقلانيّ. إنّ العَقلَ بصيغته الجَمعية والعاديّة، لا يزال مُحمّلًا بترسُبّات شموليّة واستبداديّة، ولا يزال الحُكّام يتلاعَبون وبشكل قهريّ واستغلاليّ بالمُواطنين والسُكّان.
وقد سمَحَ الاستخدام المُتزايد للمُصطَلحات واللُّغة العِلمية، لمُثقّفي الدَولة بأن ينسجوا أعذارًا ظلاميّة لحُكم الدَولة، تبريرات وأعذار كانت ستُقابَل بالاستهزاء والسُخريّة لو قيلت أمام أُناسٍ من عصورٍ أبسط وأقدم. إذ قد يُبرّر أحد السارقين، سرقتَهُ بقوله: إنّه قد ساعد ضحاياه بسرقته هذه، إذ من خلال نقل الأموال من القِطاع الخاصّ وتحريكها بالسوق، فقد أعطى دَفعة إنعاشية لتجارة التجزئة. فلَو قال هذا، فإنّه قد يُصدّقه عدد محدود من الناس. أمّا حينما يقول هذا ويُلبسُ قولَه هذا، بنظرية كينزي في الاقتصاد على سبيل المثال، ويُلحِقها بمُعادلات رياضية ومراجع مُثيرة حول “تعدّد التأثيرات” كمفهوم اقتصاديّ، حينها ستجد هذه الفكرة مقبولية واسعة وستكون أكثر إقناعًا وستحظى بعدد كبير من الأتباع. وهكذا يُنتَهَك كُلّ حِسّ بَدهيّ وكُلّ منطق سليم، في كُلِّ عصرٍ بطريقته الخاصّة.
(أسّس هذه النظرية الاقتصاديّ البريطانيّ جون مينارد كينز، وتُركِّز هذه النظرية على دور كِلا القطاعين العام والخاص في الاقتصاد، وتحديدًا الاقتصاد المختلط حيث يختلف كينز مع السوق الحُرّ، ويرى أنّ على الدَولة أن تدخّل في بعض المجالات.)
من أجلِ هذا كُلّه، فإنّ التدعيم الإيديولوجيّ أمرحيويّ بالنسبة إلى الدولة، ويجب أن يتواجَد باستمرار وأن يُحاوِل دون توقّف أن يُقنَع الناسَ بشرعيّة وجود الدَولة. إنّ التدعيم الإيديولوجيّ مُهِم لتميّيز تصرّفات الدولة عن تصرّفات قاطعي الطُرُق والسارقين. وليس الهجوم المُتواصِل للدَولة على الحِسّ السليم للشعوب أمر من قَبيل الصدفة، كما عبّر عن ذلك، هنري لويس مِنكن، حينما قال:
إنّ الرجل العادي ومهما كانت عيوبه، بإمكانه أن يَلحَظ على الأقلّ أنّ الحُكومَة كيان يقع خارج ذاته، وخارج البشر من أمثاله، إنّه يراها كُقوّة مُنفصِلة عن الشعب، ويراها كخَصم عِدائيّ، وأنّه لا يملِك سيطرةً عليها إلّا بجُزء يسير، وهوَ يعرِف جيّدًا أنّ بإمكان الحكومة أن تُلحِق به أذىً عظيم. أليسَ شيئًا مُلفِتًا للنظَر أن تجدَ الشَيءَ نفسه في كُلّ مكان، أن تكون السرقة التي ترتكبها الحُكومة، فعلًا أقلّ فظاعة وأقلّ جُرمًا من السرقة التي يرتكبها الفَرد أو الجَمَاعات؟ إنّ السبب وراء هذا كُلّه، يكمنُ -في رأيّي- هو الشعور العَميق بالعِدَاء الجوهريّ بين الحُكومَة والشَعب الذي تحكمه وتُسيطر عليه. هذا هُو أساس الوَعي بالدولة في أذهان الناس، إنّهم يَرونَها كشركة مُستقلّة عَنهم، مُكرّسة لاستغلال السُكّان لصالِح أعضاء هذه الشركة (الحكومة والطبقة الحاكمة) ولا ينظرون إليها كمجموعة من المُواطنين الذين تمّ اختيارهم من قِبَل الشعب نفسه ووُكِّل إليهم القيام العَمَل الجماعي لخدمة ومصلحة باقي الشعب.
وهذه المُفارقة في تعامل الدَولة مع حالات السـرقة السابقة فيها شيء من التناقض الذي يُخالِف المَنطِق، فحينما يُسرَق رجل عاديّ فإنّنا أمام رَجُل جدير يُحرَم من ثمارِ إنتاجه ومن جُهود عمله وثروته. أمّا حينما تُسرَق الحكومة، فإنّ أسوأ ما قد يحدُث هُو أنّ بعض الأوغاد والكَسالى (من العاملين في الحكومة) سينقص المال الذي يتسكّعون به وسيقلّ المال الذي بين أيديهم، أي أنّهم لَن يتضرّروا كثيرًا. مع هذا فإنّ الدَولة تُوليهم أهمّية أكبر. وهذه مُفارقة قد تبدو مُثيرة للسُخرية وللضحِك بالنسبة لمُعظَمِ الناس العُقَلاء.
[ ما تخشاه الدولة وتهابُه ]
إنّ أشدّ ما تخشاه الدَولة: النقد العقلانيّ والمُفكِّر الحُرّ
– موراي روثبورد
من المُؤكّد أنّ ما تخشاه الدولة أكثر من أيّ شَيءٍ آخر، هُو أيّ تهديد جوهريّ لسُلطَتها ولشرعية وجودها. وقد يَحدُث أن تموت الدولة أو تسقط بطريقيتين رئيسيّتين:
- من خلال الغزو والاحتلال من قِبَل دولة أُخرى
- من خلال الإطاحة بها ثوريًا من قِبَل رَعَاياها.
وباختصار قد تموت الدولة بإحدى اثنتين: الحَرب أو الثورة. إنّ الحَرب والثورة يُعتَبران التهديدان الأساسيان لأيّ دولة ولهذا السبب يبذُل حُكّام الدُوَل أقصى جُهودهم ويضخّون مُعظَم دعاياتهم بهذا الاتجاه. وبناءً على ذلك، تُستَخدَم كُلّ الطُرُق لتعبئة الناس باتجاه الدفاع عن الدولة وإقناعهم بأنّهم حينما يُدافعون عن الدولة، فإنّهم إنّما يُدافعون عن أنفسهم بفعلهم ذلك. وتتضّح هذه المُفارقة بشكل أكبر من خلال فكرة التجنيد الإلزاميّ، فأولئك الذين يرفضون الانضمام إلى الجيش، فإنّهم يَبدون وكأنّهم يقولون “نحنُ نرفض الدفاع عن أنفسنا” ومَع هذا فإنّ الدولة تُجبرهم على الانضمام للصفوف العسكرية عبر التجنيد الإلزاميّ. وغني عن القَول أنّ المُفارقة الأُخرى تكمن، في أنّ المُواطنين لا يُسمَح لَهُم بأن يُدافعوا عن أنفسهم ضد هذا التجنيد الإلزاميّ الذي تُمارسه عليهم الدولة. (فهي تُخبرهم أنّه يجب عليهم الدفاع عن أنفسهم -من خلال إجبارهم على الانضمام إلى الجيش- وفي الوقت نفسه، تحرمهم من الدفاع عن أنفسهم من هذا الفعل “التجنيد” إذ يجب عليهم أن يُصبحوا جُنودًا ولا يحقّ لهم أن يرفضوا قرار الدولة الذي يقضي بذلك).
تبلغ سُلطَة الدولة أقصاها في حالة الحَرب، وتحت شعارات: “حالة الدفاع” و”حالة الطوارئ”، تفرض الدولة طُغيانًا عامًّا على الشعب، وقد تُفرَض حالة الطُغيان والهيمنة هذه وبشكل تعسفيّ خلال وقت السِلم. وهكذا تُوفِّر الحروب للدولة منافع عديدة، بل إنّ كُلّ الحروب الحديثة كانت قد جلبت للشعوب المُتحارِبة حِمِلًا إضافيًا دائمًا وعَبئًا من أعباء الدولة المُتزايدة على المُجتَمَع. إضافةً لذلك، تُوفِّر الحُروب للدولة، فُرَصًا مُغرية للغاية لكيّ تغزو وتفرض هيمنتها ونفوذها على مساحات أُخرى من الأرض، لتُمارِس عليها احتكارها للعُنف وللقُوّة. لقد كان راندولف بورن مُحِقًّا حينما قال: “إنّ الحَرب تُبيِّن الحالة الصحّية للدولة” فالحَرب قد تكشف عن حالة صحّية جيّدة للدولة أو عن إصابة خطيرة في جسمها، أو قد تتسبّب لها في ذلك.
وإذا ما أردنا اختبار الفرضية القائلة بأنّ الدولة تهتمّ بحماية نفسها بشكل أكبر من اهتمامها بحماية رعاياها ومُواطنيها، فسيكون بإمكانّنا التحقّق من هذه الفرضية عبر تتبّع إجابة السؤال التالي: ما هي نوعية الجرائم التي تُولي لها الدولة اهتمام خاصّ وتُعاقبها عقوبات مُغلّظة وشديدة؟ هل هي تلكَ الجرائم التي تُرتَكب ضد المُواطنين العاديين؟ أم تلكَ التي تُرتَكَب ضدّها؟ إنّ أخطر الجرائم في قاموس الدولة هي في الغالب، ليست تلكَ التي تتعلّق بالتعدّي على شخص عادي أو بانتهاك مُمتلكاته، وإنّما أخطر الجرائم بنظرها هي تلك التي تُهدّد وجودها بشكل خاصّ.
ومن الأمثلة على هذه النوعية من الجرائم التي تعتبرها الدولة مُهدِّدة وتُشدّد العقوبات تجاهها: الخيانة، انشقاق أحد الجنود وانضمامه إلى العدو، رفض الانضمام إلى الجيش، التآمر والتخريب، التخطيط لتقويض الحُكُم أو اغتيال الحُكّام، وكُلّ الجرائم الاقتصادية التي تمسّ أموال الدولة، مثل تزوير الأموال أو التهرّب من ضرائب الدولة والتحايُل عليها. أو انظر إلى درجة الحماسة والطاقة التي تُكرِّسها الدولة لمُلاحقة رَجُل اعتدى على شرطي أو رجل أمن، وقارن ذلك بالاهتمام الذي تُوليه عند الاعتداء على مُواطِن عادي. ومع هذا فإنّه من الغريب أن تُعلِن الدولة عن أنّ أولويتها هي الدفاع عن نفسها، فيما تُوجِّه هذه الأولوية الدفاعية ضدّ مجموعة من الأفراد، هُم أنفسهم سبب وجودها المُفترَض وهُم أنفسهم مَن يمنحوها مُبرّر وجودها.
[ علاقة الدُوَل ببعضها البعض ]
لا يحقّ للحكومة السابقة أن تُلزِم الحكومة التي تليها بمعهاداتها، كما لا ينبغي بالضرورة أن تلتزم الحكومة الحالية بمعهادات الحكومة التي سبقتها.
– موراي روثبورد
بما أنّ مساحة الكُرَة الأرضية مُقسّمة لمناطق بين دُوَل مُختلفة، فإنّ مسألة علاقة الدولة بغيرها وبمن يُجاورها تحتلّ جُزء كبير من وقت الدولة وطاقاتها ومجهودها. إنّ الوضع الطبيعي لأّي دولة هو أن تتجّه لتوسيعِ نُفوذها وزيادة قوّتها ويحدث هذا عن طريق التوسّع خارج حدود الدولة والذي يتمّ في الغالب عن طريق بسَط الدولة لنفوذها على مناطق إقليمية أُخرى. وما لَم تكن هذه المناطق مأهولة وما لَم تكن تتبع لسيادة دولة أُخرى، فإنّ أيّ توسّع من هذا القبيل، من شأنه أن يتسبّب بتضارب مصالح جوهريّ وصِراع بين حُكّام الدُوَل المُتوسِّعة وحُكّام الدُوَل المُتوسّع على حسابها. إذ لا يُمكِن لأكثر من حاكم أو لأكثر من نظام حُكُم واحد أن يفرض سيطرته على منطقة إقليمية واحدة. ذلكَ لأنّ الدولة تحتاج لاحتكار العُنف والسُلطة وحدَها، ولا ينبغي أن يُنافسها في ذلك أحدٌ آخر. ولا يُمكن لدولة أن تتمتّع بكامل سُلطتها على إقليم مُعيّن، إلّا من خلال طرد الدولة الأُخرى ورحيلها. ورغم أنّ الحَرب قد تتسبّب بالكثير من المخاطر، إلّا أنّ الاتجاه الدائم للدُوَل هو الحروب، ويتخلّل هذه الحروب فترات سَلَام وبعض التغييرات في التحالفات والائتلافات بين الدُوَل.
لقد رأينا أنّ المُحاولات الداخلية والمحلّية للحدّ من طُغيان الدولة، قد بلغت أوجها خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر، عن طريق وضع حدود دستوريّة للدَولة لتقييد نفوذها ولضمان عدم طُغيانها. وكان نظيرها من المُحاولات على المُستوى الخارجيّ والعلاقات الخارجية للدولة قد تمّ عن طريق تطوير وصياغة “القانون الدُوَليّ” وبعض الأشكال الخصوصيّة للقانون الدوليّ من مثل “قوانين الحَرب” و قوانين “إعلان الحِياد” والحقوق المُحايدة. وتعود أجزاء كثيرة من القانون الدُوَليّ في أصلها إلى حاجة التُجّار في كُلّ مكان إلى قوانين واتّفاقيات لحماية مُمتلكاتهم وإلى قوانين تفصِل النزاعات والخِلافات بين تُجّارٍ من دُوَلٍ مُختلفة ذات قوانين مُختلفة. ومن الأمثلة على ذلك قانون الأميرالية* وقانون التجارة وحتّى هذه القوانين والتشريعات المُنظِّمة في حقيقتها كانت قد تولّدت بشكلٍ طبيعيّ واتُّفِقَ عليها بشكلٍ اختياريّ وتشاركيّ ولَم تُفرَض من جِهة دُوَلية عُظمى.
أمّا قوانين الحَرب فقد كان الهدف الحقيقيّ منها، هو: الحَدّ مِن التدمير بين الدُوَل المُتحاربة، والحَدّ من توجيه التدمير إلى جهاز الدَولة نفسه. بالإضافة لحماية المَدنيين الأبرياء من مجازر الحُروب ودمارِها. وقد كان الهدف من تطوير وصياغة قوانين إعلان الحِياد، والحقوق المُحايدة هو الحِفاظ على التجارة الدُوَلية المَدَنية والخاصّة، حتى مع العدو، ولحماية الخطوط التجارية والمُمتلكات الخاصّة من أن يتمّ الاستيلاء عليها من قِبَل أحد الأطراف المُتحارِبة. لقد كان الهدف الرئيسيّ في ذلك الوَقت هُو الحَدّ من مدى أيّة حَرب، وعلى وجه الخصوص الحدّ من تأثير المُدمِّر على المُواطنين العاديين والمَدنيين المُسالمين في البُلدان المُحايدة وحتى في البُلدان المُتحارِبة.
لقد عبّر القانونيّ والحُقوقيّ فريدريك فيّيل، عن هذا النمط من الحروب، التي شاعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر وقد وصفها بشكلٍ آخّاذ حين سمّاها بـ “الحَرب المُتحضِّرة”. وقد وصفها بقوله:
لقد كان السُكّان الأثرياء والتُجّار في إيطاليا بالعصورِ الوُسطى، مُنشَغلين للغاية ومُنهمكين في كسب المال والتلذّذ بمُتَعِ الحياة، عِوَض أن يقوموا هُم أنفُسَهُم بالأعمال المُجهِدة. وبدلًا مِن أن يُعرِّضوا أنفُسَهُم لمخاطر التجنيد وتَبِعاته، فقد استحدثوا فكرة التعاقد مع مُرتَزَقة ليقوموا بالقتال بالنيابة عنهم، ولأنّهم تُجّار ويُفكّرون بطريقة مُقتَصِدة، فقد كانوا يتوقّفون عن دفع الأُجرَة للمُقاتلين المأجورين والمُرتَزَقة بمُجرّد انتهاء مهامهم القتالية و فَورَ الاستغناء عن خدماتهم. ولذلك كانت الحُروب تُخَاض من قِبَل جيوش مُستأجرة في كُلِّ حَملَة عسكريّة. ولأوّل مرّة صارت الجُنديّة والعسكرية مِهنة معقولة ووظيفة غير ضارّة نِسبيًا. وقد قام الجِنرالات في تلك الحِقبة بالتنافس ومناورة بعضهم بعضًا بمهارة عالية، وحينما كان يفوز أحد الجنرالات فإنّ منافسه كان إمّا يتراجع أو يستسلم وبذلك تُسلّم نفوذ منطقة إقليمية من قيادة لأُخرى. لقد كانت هذه قاعدة معروفة: لا يمكنك أن تنهب أي مدينة إلّا إذا هاجمتها أو أبديتَ عدوانكَ تجاهها، وكان بالإمكان على الدوام شراء الحصانة بدفع الفدية للغُزَاة، وكنتيجة طبيعية نادرًا ما كانت المُدُن تُبدي المُقاومة بعدَ سقوط أنظمتها وحُكوماتها. ومن الواضح أنّ الحكومة التي تعجز عن حماية مواطنيها، سرعان ما تخسر ولاءَهُم لها. وقلّما كانت الحروب تُقلِق السُكّان المدنيين بقدر ما كانت تقلق الجنود والمُقاتلين الرسميين.
هذا الانفصال التامّ والمُطلَق للمَدنيين عن حُروب الدولة، وهذا الانفصال بين الشعب وجهاز الدولة في القرن الثامن عشر في أوروبا، كان قد صاغه “نيف” بالعبارات التالية:
حتى الاتصالات البريدية لم تكن تُحظَر أو تُقيّد في فترات الحُروب وقد كان معمولًا بهذا لمُدّة طويلة. لقد تمّ تداول الرسائل بدون أيّ رقابة، ودرجة هذه الحُرّية في المُراسلات بإمكانها أن تُذهل عقلية إنسان في القرن العشرين (على ما فيه من حُرّيات). وقد كانت رعايا الدُوَل المُتحاربة تتواصَل مع بعضها البعض حينما تلتقي وتتحدّث، وحتّى حينما كانوا لا يتمكنون من الالتقاء فإنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم ضِمنًا كأصدقاء لا كأعداء (فخلافات الدُوَل والأنظمة هي خلافات مُنفصلة عنّا، وهي لا تُمثِّل رغباتنا أو رؤيتنا، إنّما محض جهاز إداري تُوكَل إليه مهام إدارة الدولة والحفاظ على النظام العام). أمّا التصوّر الذي نعيشه، فهو مُجرّد فكرة حديثة للغاية، كانت بالكاد موجودة من قبل، هذه الفكرة التي تُحمِّل رعايا الدولة المُعادية مسؤولية ولو جُزئية عن الأعمال الحربية لأنظمتها وحُكّامها. وهكذا في الماضي لم يكن لدى الأنظمة المُتحاربة أيّ تصرّف حازم لوقف الاتصالات بين رعاياها وسُكّانها المدنيين. وحتى الممارسات القديمة من التجسّس أو الاختراق على هيئة دينية مُشتركة، كلّ هذه الممارسات كانت قد اختفت تقريبًا في القرن الثامن عشر، ولم يتمّ تجريم أيّ اتصال سياسيّ أو اقتصادي بين البلاد المُتحاربة. حتى جوازات السفر كان قد تمّ إنشاؤها بالأصل من أجل توفير قنوات آمنة للسفر والانتقال في وقت الحرب. ونادرًا ما جرى أن تخلّى الأوروبيون عن سفرهم لبلد أجنبيّ آخر كانت أنظمتهم على حربٍ معه.
وقد صار معروفًا لاحقًا أنّ للتجارة منافع مفيدة لكلا الطرفين، كما حدث حرب القرن الثامن عشر حيث أدّت إلى توازن كبير وملحوظ عبر “التجارة مع العدو”.
ولَن يتسّع المجال هُنا للتفصيل وللحديث عن مدى التجاوزات التي اقترفتها الدول ولا للحديث عن عدد المرّات التي خَرَقت الدولُ فيها قواعد الحَرب المُتحضِّرة. أمّا في العصر الحديث، فقد صارت فكرة اقتصار الحرب على الدولة أمر قديم وعفا عليها الزمن، خاصّة مع ظهور أنماط الحرب الشاملة، التي تطوّرت بفعل أسلحة وتقنيات الدمار الشامل. (أي أنّ الدولة غير مُضطّرة لأن تخوض الحربَ على أرضها، بإمكانها أن تعبر بالصواريخ وبالطائرات وبالبوارج الحربية المحيطات لتفتعل حربًا بعيدة عنها، أضِف لهذا أنّ الحروب صارت تُعقَد بتحالفات دولية، أي مجموعة ضد مجموعة، أو مجموعة ضد واحد كما في اجتياح العراق ونحوه).
غالبًا ما تكون الاتفاقيات ضرورية لإبقاء الاحتكاك مُخفّضًا للحدّ الأدنى في الأوقات التي لا تكون فيها الدُوَل في حالةِ حَرب. وتُعَدُّ “حُرمة المُعاهدات وقدسيتها” إحدى المقولات المزعومة التي لاقت قبولًا شائعًا بين الدُوَل، باعتبار حُرمَة المُعاهدة أمر مماثل ونظير لحُرمة عقود المُلكية. بالرغم من أنّ “معاهدات الدُوَل” و “العقود الحقيقيّة” لا تتشابهان في شيء. إذ ينقل العَقد المُلكية الخاصّة لشيء مُحدّد، من طرف إلى طرفٍ آخر بشكل واضح ودقيق. وبما أنّ الحكومة لا تقوم بحيازة منطقتها الإقليمية بعقد تملُّكيّ سليم، فإنّ أي اتفاقيات تُبرمها الدولة حول هذه المنطقة لا يُمكن اعتبارها تصرّف مُعتَبَر بالمُلكية أو نقل لها بالمُطلَق. (هكذا حينما يكون الأساس لقيام الدولة خاطئ، يكون كل ما يستتبعه لاحقًا خاطئًا، ولهذا يُقال: لا يُمكِن اعتبار أي أحد غير شرعيّ، على أرض مسروقة بالأساس).
فإذا قام السيّد جونز – على سبيل المثال- ببَيع أراضيه إلى السيّد سميث، فإنّه يكون بذلك قد نقلَ مُلكيّة هذه الأراضي لصالح السيّد سميث. ومن هُنا فإنّه لا يجوز للوريث الشرعيّ للسيّد جونز أن يزعُم لاحقًا بأنّ هذه الأراضي مِلكًا له. لأنّ مُلكية العقار والأراضي قد تمّ نقلُهَا بالفعل إلى السيّد سميث. ولذلك لا يحقّ لوريث السيّد جونز أن يدّعي مُلكيته للأراضي أو أن يتصرّفَ بها. إذ لا يُمكِن للسيّد جونز أن يُورِّث إلّا مُلكية الأراضي والأشياء التي لا يزال يمتلكها ولا تزال بإسمه. ومن هُنا فإنّه لا يجوز أن تُورِّث الدولة ما ليس لها، لدولَة أخرى، ولا يجوز للدَولة أن تتصرّف فيما ليس ملكًا لها. (فهي تنوب لفترة مؤقّتة عن الشعب وتكون مسؤولة المنطقة الإقليميّة لفترة مُحدّدة ولا يعني هذا أنّ المنطقة الإقليمية ملكًا لها ولا يُخوّلها ذلك بالتصرّف بالمنطقة الإقليميّة باعتبارها ملكًا لها). ومن هنا، ولنفترض مثلًا أنّ في إحدى الأزمان قامت مملكة الواق واق مثلًا بالتنازل عن ملكية بعض أراضيها لصالح دولة مُعيّنة رغمًا عنها، حينها سيكون من السخيف القول أنّ الحكومات اللاحقة أو سُكّان الدوَلَتين سيكونون ممنوعين من المطالبة بإعادة توحيد الأراضي أو استرجاع أراضيهم المُغتصَبَة للأبد، بناءً على ذريعة “حُرمة المُعاهدات وقُدسيتها” ووجوب المحافظة عليها وعدم خرقها.
وكنتيجة لذلك، لا يحقّ لأيّ حكومة أن تُلزِم بشكلٍ مُطلَق الحكومات التي تليها بمعاهداتها (خاصّة إذا ما قامت بها خضوعًا أو تواطؤًا) وكما أنّ الحكومات اللاحقة غير مُلزَمة باتفاقيات الحكومات التي سبقتها، فهي لا تُلزِم مَن بَعدها بما تحمّلت هي مسؤوليته. فلو فرضنا أنّ حكومة ثورية ما، قامت بالإطاحة بمَلِك الواق واق وحاكمها، ثُمّ تولّت إدارة شؤون البلاد بدلًا منه، فإنّه لا يجب مُحاسبتها على أعمال الملك السابق والديون التي تسبّب هو بها لمملكة الواق واق، لأنّ الحكومة الثورية الجديدة ليست طفلًا وريثًا لمُمتلكات المَلك (إذ أنّ المنطقة الإقليمية التي تفرض الدولة نفوذها عليها، تُعدُّ ملكًا للشعب وليس للمَلِك، وإن حكمها لفترة طويلة).
[ التاريخ كصراع بين “سُلطة المُجتمع” و “سُلطة الدولة” ]
على الدوام كانت سُلطة الدولة تهدف إلى الحَدّ من سُلطة المجتمع وإضعافها في العديد من المناطق.
– موراي روثبورد
كُنّا قد تحدّثنا في الفصول السابقة عن المَبدَأين الأساسيين المُستقلّين لتحقيق الثروة: إمّا عبر الإنتاج والتبادل السلميّ، أو من خلال الاستغلال القهريّ ونهب إنتاج الآخرين، وبالمِثل فإنّ تاريخ البشرية، وتحديدًا تاريخها الاقتصاديّ، يُمكِن أن نعتبره مُنافسة بين هذين المَبدَأين. فمن ناحية، هُنالكَ إنتاجيّة إبداعية، وتبادل سِلميّ وتعاون على بيع المُنتجات وتبادلها. ومن ناحية أُخرى، هناكَ الإكراه والنهب والاستغلال القهريّ لإنتاج الناس وافتراس لهذه العلاقات الاجتماعية المُسالمة وإنتاجها. لقد أطلَق آلبرت جاي نوك، على هذه القِوى المُتصارعة إسمين أكثر أناقة، فسمّاها: “السُلطة الاجتماعية” و”سُلطة الدولة”. إنّ السُلطة الاجتماعية هي سُلطة الإنسان على الطبيعة، وعبر تفهّمه الواعي وبصيرته النافذة لقوانين الطبيعة، قام الإنسان بتحويل موارد الطبيعة وتبادلها بشكل سِلميّ وتعاونيّ يُحقّق النفع والمصلحة لجميع الأفراد المُشاركين في عملية الإنتاج. وهكذا نفهم السُلطة الاجتماعية بوصفها سُلطة الإنسان على الطبيعة، وبفضلها تحسّن المُستوى المعيشيّ للبشر المُشاركين في عملية الإنتاج السلميّ المُتبادَل. أمّا سُلطة الدولة، وكما رأينا بالفصول السابقة، فهي سُلطة قهرية ، تستولي على إنتاج الناس، لصالح حُكّام ومسؤولين غير مُنتجين، طُفيليين يعيشون على إنتاج الآخرين، ليسوا غير مُنتجينَ فحسب، وإنّما أعداء للإنتاج. وكما أنّ السُلطة الاجتماعية، هي سُلطة الإنسان على الطبيعة. فإنّ سُلطة الدولة هي سُلطة الدولة على الإنسان.
وعبر التاريخ قامت قِوى الإنتاج والإبداع لدى الإنسان باستحداث طُرُق جديدة مِرارًا وتِكرارًا لتحويل موارد الطبيعة لما يخدم مصلحة الإنسان وبما يعود عليه بالفائدة والمَنفعة. كانت السُلطة الاجتماعية في تلكَ الأزمان سابقة على سُلطة الدولة، إذ لمَم تكن سُلطَة الدولة حاضرة بهذا الشكل بَعد، وكانت درجة تعدّي سُلطة الدولة على المُجتَمع محدودة ومُقلّصة بشكل كبير. ولكن خلال دورات تاريخية مُتعاقبة، طالت أم قَصُرَت، كانت الدولة على الدوام، تقوم بتعطيل السُلطة الاجتماعية ومصادرتها في العديد من المناطق. وإذا كانت الفترة الواقعة بين القرن السابع عشر والتاسع عشر، في العديد من الدُوَل الغربية هي الفترة التي تعاظمت فيها السُلطة الاجتماعية مما أدّى إلى زيادة طبيعية للسلام والحُرّية والنعيم والوَفرة المادية، فإنّ القرن العشرين كان في الحقيقة، القرن الذي تمكّنت فيه سُلطة الدولة من اللحاق بالرَكب التاريخيّ، واستطاعت فيه أن تتفوّق على السُلطة الاجتماعية بشكل حاسِم.
في القَرن الحالي، يُواجه الجِنس البشريّ مرّة أُخرى وَرَم حُكم الدولة، الدولة التي تتسلّح الآن بثِمَار القِوى الخلّاقة للإنسان (من أسلحة فتّاكة وتقنية عالية)، والتي سيطرت عليها الدولة لتحرفها ولتستخدمها لأهدافها الخاصّة. كانت القرون القليلة الماضية، عبارة عن أوقات حاول فيها البشر أن يضعوا قيود دستورية على الدولة، ليكبحوا جِماح الدولة، ولكنّهم وَجَدوا أنّ هذه الحدود مثلها مثل جميع المُحاولات السابقة، قد باءت بالفشل. مِن بين جميع الأشكال العديدة التي اتخذتها الحكومات عبر القرون، ومن بين جميع الجِهات الرقابية والمُؤسّسات التي تمَت تجربتها، لَم تنجَح أيّ من هذه المُحاولات في الإبقاء على الدولة تحت السيطرة. ومن الواضح أنّ مُشكلة الدولة هذه بعيدة كُلّ البُعد عن أن تُحَلّ. وإذا كان بإمكاننا حقًّا أن نصل إلى حَل قطعيّ وناجح لمسألة الدَولة، إذا كان بإمكاننا هذا حقًّا، فرُبّما سيكون ذلك بالتفكير بمسارات جديدة واستكشافها.
[ ما بعد الكتاب ]
قائمة بالقراءات والكتب، مقترحة لتشكيل وعي سياسيّ متعدّد الموضوعات
اضغط هنا